النظام السوري ولعبة القتل المزدوج
هوشنك بروكا
دخلت الثورة السورية أسبوعها السابع، ولا يزال النظام في دمشق، يعزف على ذات المعزوفة التي بدأ بها أول القتل: “الشعب يخون النظام”، والذي “يخون” بحسب شرع النظام، ليس له إلا أن يُقتل. الولاء للوطن، إذن، بحسب المفهوم الرسمي، هو الولاء للنظام، وكلّ خروجٍ على هذا الأخير، هو في النهاية خروج على الوطن، ما يعني السقوط في “الخيانة العظمى”.
تحت هذا العنوان “التخويني”، دخلت فرق النظام ومدرعاته درعا وحواليها، لمطاردة “الجيوب السلفية” و”عملائها المندسّين”، وفعلت قياداته بأهلها، ما يمكن أن يفعله أي نظام فاشي بشعبه، فقطعت كل وسائل الإتصالات والماء والكهرباء والمواد الأساسية عن حوران، ليعيش الناس في حالة حصار كامل، تحت القصف والنار.
لم يعد خافياً على أحد، أنّ النظام السوري يمارس الكذب المكشوف على شعبه والعالم، على أكثر من مستوى وصعيد. فالذي بات أكثر من معروف، هو أنه يمارس لعبة القتل المزدوج، على الشعب وجيشه معاً. فإما أن تكون قاتلاً، تقتل كلّ من يخالف النظام وأوامره، أو تكون مقتولاً. تلك هي القاعدة “الإصلاحية” التي يتعامل على أساسها النظام، مع الأحداث ومن فيها من الشعب والجيش.
القتل، لا يزال هو سيد الموقف في “إصلاحات” الرئيس السوري، الذي جاء بها على ظهر الدبابات.
عدد ضحايا إصلاحات الرئيس “العاجلة” القاتلة، تجاوز حتى الآن، بحسب منظمات حقوقية ال600 شهيد، إضافة إلى عشرات آخرين سقطوا من الجيش، في سياق لعبة استخباراتية مكشوفة، أراد بها النظام تحقيق عدة غايات، منها:
أولاً: زج الجيش وإقحامه في صراعٍ هو أصلاً بين الشعب والنظام، حيث الأول يريد إسقاطه، كما تقول شعاراته. النظام دفع بالجيش إلى معركته، ليخيّره بين أمرين: الولاء للنظام أو للشعب. فمن يختار الأول، عليه أن يركب آلة القتل ويَقتل، كيفما شاء فوق النظام، أما من يختار الثاني، فليس له إلا أن يُقتل مع شعبه. في كلتا الحالين، يمارس النظام القتل، ويعلن القتيل شهيداً، هنا كما هناك.
هكذا يقتل النظام سوريا ويمشي في جنازتها.
ثانياً: جس نبض الجيش، واختبار ولائه للنظام، لتفادي تكرار ما جرى في كلٍّ من تونس ومصر وليبيا واليمن.
ثالثاً: دق إسفين بين الشعب السوري والجيش، وخلق نوع من حالة الشعور باللاثقة واللاأمان واللإئتمان بينهما.
رابعاً: التشويش على حقيقة ما يجري بين الشعب والنظام على الأرض، وذلك بإخفاء القتل بالقناصات، وراء القتل بالدبابات، وإخفاء العنف الدموي لجنجويد النظام وشبيحته وراء الزي العسكري الرسمي للجيش، خصوصاً بعد فضح الرواية الرسمية، وكشف وسائل الإعلام لحقيقة “المتظاهرين المسلحين”، بالصوت والصورة، الذين تبيّنوا أنهم عصابات جنجويدية من صناعة النظام نفسه.
رابعاً: دعم الرواية الرسمية القائلة بوجود “خلايا إرهابية تريد إقامة إمارة سلفية”، و”تأكيدها” عبر الإنتشار الأكيد للجيش ومدرعاته، في الشوارع.
خامساً: إبقاء البلاد في حالة طوارئ قصوى، بحجة أن البلاد في حالة “حرب” مع الإرهاب السلفي وعملائه، وتأجيل “الإصلاحات” إلى أجل غير مسمى.
سادساً: شق صفوف الشعب السوري، وضربه ببعضه البعض، من خلال ممارسة “قمع طائفي” للمظاهرات بالجيش، الذي يضم في صفوفه جنوداً من كافة الأديان والطوائف والقوميات. وهذه اللعبة كانت متوقعة من نظامٍ ارتكب أبشع المجازر الطائفية، في بدايات ثمانينيات القرن الماضي.
النظام، يمارس الآن اللعبة الطائفية القذرة، في درعا وحواليها، من خلال زج مجندين من طوائف وقوميات أخرى، لقمع الإحتجاجات.
أمس تناقلت بعض وسائل الإعلام عن سقوط أكراد مجندين في الجيش السوري، وتم تشييع جنازة أحدهم، كشهيد في الجيش، بمشاركة رسمية، من مسؤولين كبار في حكومة وأجهزة النظام في المحافظة.
ولكن اللعبة باتت مكشوفة للأكراد من أهل الشمال السوري، لأن هذه ليست المرّة الأولى التي ستشيّع فيها الجماهير الكردية، مجنّداً لها، قُتل ب”العلم في خدمة العلم”.
فمنذ انتفاضة آذار 2004 حتى أواخر كانون الثاني 2011، قُتل بحسب منظمات حقوقية نحو 46 كردياً مجنّداً في صفوف الجيش السوري، في ظروفٍ غامضة، لا يعرفها إلا القَتَلة، ومن حولهم أو فوقهم من المسؤولين في “أركان القتل”.
حملات الإعتقالات، أمس، التي شملت مدناً مثل القامشلي وعاموادا والدرباسية وديريك وغيرها، ذات الأغلبية الكردية، وقطع الإتصالات عنها، ربما تشكل تمهيداً لوصول جنازات أخرى، لمجندين أكراد وتسليمها لذوييها، في القادم من الأيام.
مناطق الأكراد، التي شهدت مظاهرات سلمية، دون مستوى الحدث السوري الجلل، والتي لم تشهد حتى الآن اشتباكات أو أعمال عنفٍ بين المتظاهرين ورجال أجهزة أمن النظام وجنجويده، ستدفع الفاتورة الآن، كما يبدو، من دم شبابها المجند في صفوف الجيش.
إذن، لكلٍّ نصيبه من القتل، في سوريا الثورة الآن، سواء في الشارع مع الشعب الذي يريد إسقاط النظام، أو مع الجيش، ممن يرفض أوامر النظام بإطلاق النار على الشعب.
مرور حوالي سبعة أسابيع سلمية على التظاهر الكردي، لا يعني أنّ الأكراد سيسلمون من القتل.
عبور الأكراد لحوالي سبعة أسابيع سلمية بدون عنفٍ، لا يعني أنّ آلة القتل سوف لن تحصد أرواحهم.
وصول أكراد المظاهرات بعد كلّ تظاهر “محدود” بشارعٍ على طول ساعةٍ أو أقل، إلى بيوتهم سالمين، حتى الجمعة العظيمة الأخيرة، لا يعني أنهم سيسلمون من تغوّل النظام وإرهاب جنجويده إلى ما لا نهاية.
وصبر الأحزاب الكردية(الذي تجاوز صبر أيوب) على فاشية النظام، ومسكها للعصا السورية من منتصفها، مع النظام حيناً ومع الشعب حيناً آخر، لا يعني أنّ النظام سيصدّق سكوت قادتها المجانيّ، أو عدم وقوفها في وجه “دبابات إصلاحاته”، إلى آخر سوريا الغاضبة.
لا محلّ لحلول وسط، عند هذا النظام: إما معي، أو ضدي.. إما تكون مع الرئيس إلى الأبد، أو لا تكون.. إما تَقتل، أو تُقتل..تلك هي القضية التي يريد النظام حسمها، الآن، في كلّ سوريا.
بعد اختباره لولاء الجيش، سيختبر النظام من الآن فصاعداً ولاء الشعب له، خصوصاً في المناطق التي لم تشهد حتى الآن أحداث عنفٍ وقتل.
منذ يوم أمس، ومع سقوط أول مجند كردي شهيد(وحبل الشهادة لا يزال على الجرار)، دخلت المناطق الكردية، في اختبار النظام، ليقول الشعب فيه كلمته الفصل: إما مع “شهيد الجيش” ضد “درعا السلفية”، أو مع درعا الثورة ضد النظام.
لا شك أنّ الشعب الكردي المتظاهر مع أخوانه من العرب والآشوريين والأرمن، قد قال كلمته مع درعا الثائرة منذ اليوم الأول من تظاهرهم قبل أسابيع. ولكن سقف شعاراتهم لم ترتفع بعد إلى “إسقاط النظام”.
الأيام القادمة، من تشييع الأكراد لجنازاتهم الشهيدة، القادمة من جبهة “العدوّة درعا السلفية” وحواليها، ستخيّر الأكراد بين شعارين لا ثالث لهما: إما سيريد الشعب “إبقاء” النظام” أو سيريد “إسقاطه”.
ليس على الشعب الكردي في شماله السوري، الذي خرج عن طاعة أحزابه، إلا أن يرفع سقف شعاراته مع أخوانه في أرجاء سوريا الأخرى، إلى “إسقاط” النظام لأن الإبقاء عليه، لن يعني له ولكلّ السوريين، سوى المزيد من البطش والإعتقال والقتل: قتل الحرية والكرامة والحقوق، فضلاً عن إزهاق الأرواح، كما أثبتت له أكثر من أربعين عاماً من ديكتاتورية الأسدين الأب والإبن.
ايلاف