النظام لنازحي الغوطة الذين جوَّعَهم: اهتفوا للرئيس.. تأكلون!/ وليد بركسية
لا مفاجاة في الصور الأخيرة التي تداولها ناشطون سوريون عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتظهر الطريقة المهينة التي يتعامل بها النظام السوري مع النازحين من الغوطة الشرقية. فالنظام المسؤول عن الانتهاكات الجديدة، هو ذاته الذي ارتكب عدداً لا يحصى من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في الغوطة منذ العام 2013، بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيماوية المحرمة دولياً، مرات عديدة، وحصار نحو 400 ألف مدني لأكثر من خمس سنوات.
وتظهر الصور، التي تناقلها ناشطون معارضون نقلاً عن صفحات ومواقع موالية، عدداً من عناصر الأمن والشبيحة ورجال الأعمال “الوطنيين”، يوزعون لفافات الطعام، بطريقة مذلة، على المدنيين الخارجين من الغوطة الشرقية بريف دمشق، في مخيم معهد الكهرباء بمنطقة عدرا، وبينهم “رجل أعمال” يشرف على توزيع “الساندويشات” بدناءة، متعمداً إذلال المدنيين المساكين الذين عاشوا طوال السنوات الخمس الماضية، حصاراً قتل مئات المدنيين معظمهم من الأطفال ودفع البعض إلى حافة المجاعة، بحسب تقديرات الأمم المتحدة.
الرجل الظاهر في الصورة هو رائد الطباع، صاحب شركة “إكريبيس” للأدوية الزراعية والعضو في “غرفة صناعة دمشق”. وأشارت تعليقات عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى انتماءاته البعثية القديمة. ويجسد الطباع، بسيجارته الوقحة، كل شيء في “سوريا الأسد”، فهو نسخة كربونية عن عشرات المسؤولين المماثلين. ومع طاولتي شيّ الشاورما بجانبه، وتلاعبه بمشاعر المدنيين الجائعين، لا يمكن سوى الشعور بالاحتقار لمستوى الدناءة، الذي لم يتغير بعد كل ما حصل في البلاد، بموازاة الشعور بالحزن لمصير المدنيين الواقعين تحت رحمة النظام الذي يكرس ممارسات العنف بطرق متعددة.
وقوف الطباع على منصة عالية وهو يرفع الطعام عالياً كي لا تطوله الأيدي الممتدة بجوع، امتداد لسياسة النظام الطويلة في الإذلال، حيث عمد النظام البعثي – الأسدي بعد استيلاء حافظ الأسد على السلطة العام 1970 إلى تعميم نموذج “كسر النفسية” وإبقاء السوريين منشغلين بالحاجات الأساسية لبقائهم على قيد الحياة بالحد الأدنى. ولهذا السبب كان احتكار بيع الخبز والمواد الغذائية يتم عبر نظام “المؤسسات الاستهلاكية” التابعة للنظام، حيث يصطف الناس للحصول على حصتهم من تلك المواد، بحيث يضع النظام نفسه في مرتبة صاحب الفضل أمام السوريين.
والحال أن النظام “المنتصر” الآن يشعر بفائض القوة، ويريد استثمار “هالة النصر” في الغوطة الشرقية، أمام الموالين والمعارضين على حد سواء، بالقول أن لا طعام ولا شراب ولا أمان إلا في حضنه.. فيما هو أصلاً سبب الجوع! وتتحدث الصفحات الموالية عن الصورة بفخر، مقارنةً اياها “بحالة الجوع التي عاشها المدنيون قبل خروجهم من الغوطة”، من دون الإشارة إلى دور النظام في فرض الحصار والتجويع كتكتيكات حرب مستمدة من القرون الوسطى، لخنق المناطق المعارضة له ودفعها للاستسلام وتوقيع اتفاقيات المصالحة. وبالتالي فإن الصور تحمل رسالة تحذيرية مضادة بأن كل يخرج عن طاعة “الأسد” يوماً، سيكون مصيره الجوع والقهر والمذلة، كحالة المدنيين في الصورة تماماً.
وبعد تداول صور مروعة لصور سيلفي التقطها جنود في جيش النظام، أمام شاحنات محملة بالمعتقلين من الرجال والشباب الخارجين من الغوطة الشرقية، بغرض اعتقالهم أو تجنيدهم، الأسبوع الماضي، بثت صفحات موالية صور سيلفي لجنود من جيش النظام يبتسمون وهم يحرسون مجموعة من النساء والأطفال الذين تم احتجازهم في أحد مراكز الإيواء، من دون معلومات تفصيلية عن مصيرهم.
الوضع السابق دفع الممثل المقيم لأنشطة الأمم المتحدة في سوريا، علي الزعتري، إلى القول بأن “الوضع مأسوي في مراكز الإيواء التي خصصتها النظام السوري للفارين من الحملة العسكرية في الغوطة الشرقية قرب دمشق”، حسبما نقلت وكالة “فرانس برس”، مضيفاً :”لو كنت مواطناً لما قبلت بأن أبقى في مركز إيواء لخمس دقائق بسبب الوضع المأسوي. صحيح أن الناس هربوا من قتال وخوف وعدم أمن، لكنهم ألقوا بأنفسهم في مكان لا يجدون فيه مكاناً للاستحمام”.
إلى ذلك، لا تختلف درجة الإذلال المقصود والممنهج في الصور السابقة عن درجتها في مقطع الفيديو الذي بثه المنتج الدرامي وعضو مجلس الشعب السوري محمد قبنض، خلال توزيعه للمساعدات البسيطة من مياه و”ساندويتشات” على النازحين من الغوطة الشرقية، والتي يتم توزيعها بشرط الهتاف لرئيس النظام السوري بشار الأسد أولاً، وشكره، بحيث يصبح الاعتراف بسلطة الأسد شرطاً للبقاء على قيد الحياة لأن الطعام والشراب والهواء النظيف لا تحق سوى للفئات الخاضعة من الناس.
ويجب القول أن هذا الأسلوب في تحطيم بنية المجتمع السوري، بتحطيم نفسيات أفراده، هو جزء من الإرث البعثي، وهو مزيج سامّ من القومية العربية العلمانية والاشتراكية على غرار سياسات الكتلة الشرقية التي هيمنت على سوريا منذ ستينيات القرن الماضي. وبتحطيم بنية المجتمع الأساسية، على أسس إثنية ودينية من جهة، وبطريقة الإذلال الممنهج كما يظهر اليوم في طريقة التعامل مع نازحي الغوطة من جهة ثانية، لم يكن النظام البعثي يهدم نفسه على المدى البعيد، من وجهة النظر الرومانسية، بل كان يلغي أي احتمالية لوجود أي نظام بديل قادر على تحديه وإزالته من جذوره.
ويعني ذلك أن النظام بسياسات الإذلال والخضوع، كان يجعل تركيز السوريين منصباً على أساسيات البقاء، من دون امتلاك “رفاهية” النشاط السياسي والفكري، بغض النظر عن ظروف التخويف والاعتقال التعسفي، وبالتالي عندما يتم تحدي النظام كما حصل خلال الثورة السورية العام 2011، يضمن النظام عدم وجود طبقات وسيطة بين النظام في الأعلى والمدنيين المنتشرين في القاع، والقادرة على تأمين رحيل النظام نفسه بسلاسة ومن دون الانجرار نحو هذه الدرجة من العنف. وكان النظام بأيديولوجيته المجردة يدرك ذلك ولهذا طرح شعارات المفاضلة بين النظام والفوضى منذ العام 2011، كما تجلى ذلك أيضاً بنوعية المعارضة السورية الضعيفة والمجزأة، قبل تحول الثورة إلى العسكرة أصلاً.
المدن