النظام واللغة اليومية في سوريا: جهاز المكاذبة الثقافية والسياسية
رستم محمود
في العرف الثقافي والسياسي السوري، كان ثمة ما يشبه “الإرفاق غير الواعي” لعبارات الرأي. فمثلاً لو أردت أن تنتقد تصرفات أحد رجال الدين أو أحدى الممارسات المجتمعية المحافظة، فكان عليك بالمقابل أن تطعم حديثك بعبارات من نوع “على فكرة أنا من عائلة محافظة ومتدينة، وأهلي ملتزمين تماماً” هذا أن لم تقل “شوف أنا بقول هيك، بس أنا سني شافعي”. وإن أردت أن تنتقد أشكال الطائفية والممارسات المجتمعية والسياسية التي تنتج عنها، فكان واجباً عليك أن تسرد شيئاً من سيرتك الذاتية “أنا كنت بالسنة الثانية ساكن بنفس البيت مع شب مسيحي، أنا أعز أصدقائي علويين، السنة هنن أحب الناس ألي دوما، يا زلمة كلو كوم وحبي للمناطق الشمالية الكردية كوم.. إلخ”. ولو كان للسوري رأي عن سياسيات الدول الإقليمية، فإنه كان يردفها بعبارات مثل “على فكرة أنا مع حق العودة لكل الفلسطينيين، أنا أول واحد أكدت ولائي للمقاومة، الغزو الأجنبي مرفوض عموماً وتفصيلاً”… الخ.
تلك المرفقات الخطابية كانت متضمنة في أغلب الأحاديث السورية، فهي لم تكن تخص حديثاً أو موضوعاً أو جانباً أو نوعاً من الحوارات التي تدور في حياة السوريين. كانت تلك المرفقات بمثابة البنية التي تغلف الشكل السوري للنقاش العام، سواء أكان المنتقد النظام الاستبدادي، أو أحد أطراف المعارضة، أو أي جهة مجتمعية أو ثقافية.
أولى الأشياء التي كانت تكشفها تلك المرفقات السورية، هو رقاقة جدار الحماية الذاتية التي كان يحس السوري ويتمتع بها. فتلك المرفقات التي كانت تأتي بمثابة صكوك للغفران على ما كان قد تم تجاوزه في الحديث، ذلك التجاوز الذي ما كان السوري يشعر بأنه محمي من العقاب عليه، فكان بعبارته (تراجعاته غير الواعية) يريد أن يبني سقفاً وسنداً يستطيع أن يحتمي به، في حال مواجهته عاقبة ما كان قد أقترفه من رأي. فلا الدولة بجهازها العمومي، محاكم وأجهزة أمن، كانت تحمي السوريين في آرائهم، طالما كانت هي بذاتها، الأكثر قمعا وتصفية لكل سوري قدم رأيه. وعلى دفتها تمت تصفية كافة المؤسسات المجتمعية العرفية التي كانت تحمي الأفراد أو تمنحهم شرعية طرح أفكارهم ومبادئهم. فالركود السياسي والثقافي الذي غطى الجغرافيا السورية لعقود مديدة، أجهز على كافة البنى العرفية العقلانية في المجتمع السوري، وتحول كبت العقلية النقدية إلى سمة لأشكال التعبير الحياتية السورية.
من طرف آخر، فأن تلك السلوكيات السورية، تعبر بشكل جلي عن عمق المكاذبة الثقافية والباطنية الثقافية السياسية في ذوات السوريين. فالسوريون يفضلون أن يقولوا ما يجب أن يُسمع منهم، ما يحوز رضا وثناء اجتماعياً، على ما قد يثير النقاش والمكاشفة والنقد. فما كان يجذب ويصنع معنى وقيمة للأحاديث العامة للسوريين، هو الرضا عن الحديث وليس ما يثيره الحديث بذاته، من افكار ورؤى حديثة وتجديدية. فقد استمرأ السوريون خطاب نظامهم السياسي العام المحافظ والغامض، في السياسية والثقافة والاعلام والشأن العام. ذلك الخطاب الذي لم يكف يوما الحديث والصراخ عن المقاومة والتحرير والحقوق العربية والكرامة والشرف والممانعة والتصدي والصمود، بينما كان يعقد كل الصفقات والتواطئات والتنازلات وغضات البصر على كل حقوق شعبه المادية والمعنوية في علاقته مع كل إقليمه السياسي. وعلى المستوى الداخلي، لم يكن النظام نفسه، يتوانى عن الحديث عن التغيير والشفافية والمؤسساتية والنقد والحوار والآخر والديموقراطية والمدنية والعلمانية والفصل بين السلطات، بينما كان ينشر الإفساد والمحسوبية والتستر والقمع والسجن والتعذيب وربط البنى الأهلية بجوهر السلطة، ويخضع الآخر ويمنعه حتى من التنفس.
لم تكن تلك مجرد سياسيات وسلوكيات وخطابات دولتية مكشوفة للمجتمع السوري، وبالتالي يمكن للمجتمع القفز عليها في حقله العام. بل كانت جهازاً خطابياً وسلوكياً وتعبيراً ومؤسساتياً بالغ الضخامة والتأثير على العموم، ولفترة زمنية ممتدة، وفوق ذلك كان جهازا بالغة الرهبة والعنف والتأثير على عموم الطيف الوطني. جهاز مستحوذ على كل شيء، من الجيش الى الاقتصاد، ومن المدرسة الى القبر. كان جهاز المكاذبة الثقافية والسياسية إعلاماً حكومياً احتكارياً يصرف مليارات الليرات من أموال السوريين العامة، كان ذلك الجهاز نقابات ومنظمات شعبية ومهنية وجهوية وطلابية وقطاعية. كان ذلك الجهاز الدعائي سيماء عامة لكافة مناحي الحياة اليومية للمواطن السوري. وقد تسرب بعمق إلى آليات الأحاديث العامة ومنتجاتها وسلوكياتها التفكيرية. فكما كانت عميقة فجوة الشقاق والتكاذب التي كانت تفصل الحيز المعلن والمطروح من خطاب النظام وسلوكياته الظاهرة عن الحيز الحقيقي والواقعي لما يمارسه ويجريه على الأرض.. كانت أيضاً على المستوى نفسه فجوة الشقاق والتكاذب والتخالف، بين أحاديث السوريين العامة والمعلنة وبين أحاديثهم ورؤاهم وأفكارهم الخاصة والبينية والمطمئنة لبعضها البعض. فبداخل كل سوري كان يقبع شخصان منفصلان، شخص ينطق باسم وروح خطاب الشخص السوري العام، المحافظ واللطيف والذي لا يثير أي شيء قد يجرح العوام، ذلك الشخص العام “المتفائل” و”الوطني” و”السعيد” و”الراضي” و”الودود” و”العقلاني”، وغير المستحوذ على أي نزعة أو رغبة خاصة. وشخص خاص وفرد داخلي لا يظهر إلا لنفسه ولمن يطمأن لهم، شخص تراوده الأفكار النبيلة والخسيسة والنزعات الفردانية والعنيفة، شخص له سلوكياته وأفكاره وخصائصه وتعبيرات غير المرضي عنها، شخص يشبه كل الأشخاص الذين لم يعيشوا تجربة النظام السوري وضغوطه. كان ثمة في دواخل السوريين شخصان على الأقل، لأن السوري الأكثر “نجاحاً” و”تحقيقاً للذات”، في زمن هذا النظام السياسي، كان السوري الأكثر استحواذاً على عدد كبير من الشخوص في داخله، لأنه كان الاكثر استجابة لفلسفة وطبيعة النظام نفسه.
على أن أخطر ما تكشفه “صكوك الغفران السورية” يبقى في كشفها لطبيعة فهم السوريين لذواتهم وللآخر. فمن طرف، حين يميل السوري إلى أن يثبت أن رأيه الخاص بسلوك أو رأي فرد آخر، أنما يخص الفرد نفسه وليس جماعته، يدل ذلك التثبيت على أن القاعدة الأساس هي فهم الآخر ممزوجا مع جماعته وجهته وطائفته وأثنيته وعشيرته…. إلخ. وكذلك فأن الناقد بنفسه عند ذلك الميل للتثبيت، يذهب للقول : “أنا أيضاً لا أمثل إلا رأياً خاصاً وفردياً” وكأنه بالأساس، ينطق الأفراد بأسماء جماعتهم وطوائفهم وجهتهم.. إلخ. أي أن السوريين كانوا يستوعبون أنفسهم وآخرهم كجماعات وقطاعات. فكل نقد أو رأي بشخص ما، إنما هو رأي ونقد بجماعته وفريقه وتكتله، فالأفراد لسان حال جماعاتهم واسرابهم. كذلك هو حال مبدي الرأي، فكأنه الناطق باسم طائفته او اثنيته او رابطته الأهلية. وطالما أن الجماعات مستحيلة التناقض والتبيان، فهي مجبرة على التعايش والبقاء، فعلى كل فرد أن يؤكد دوماً أن الذي يبديه من رأي عن شخص ما، أنما يخصه ولا يخص جماعته، وأن رأيه أيضاً رأي شخصي وليس رأي جماعة، لكن ذلك يكشف عن الربط العام بين الأشخاص وجماعتهم.
ليس من التكاذب النقدي، لو قلنا أن ذلك الوعي القطاعي الجماعاتي للمواطنين السوريين، لأنفسهم وللآخر، نتج، ولنفس الأسباب، عن هضم السلطة لهم، وتفاعلها معهم، بنفس تلك المعايير والمقاسات والسلوكيات القطاعية الجماعاتية. السلطة التي كانت ترى في السوريين جماعات متجاورة ومتناقضة، حيث يمكنها أن تعتاش على ذلك التجاور والتناقض وأن تبث المزيد منه وتعمقه. السلطة التي كانت تفعل ذلك، بدءاً من التوزيع الذي تراه “عادلاً” بين تلك الجماعات المذهبية والطائفية والمناطقية، من تشكيل الوزارات إلى تعيين أصغر الموظفين، مروراً بالتعامل المتمايز معهم في ثورة الشعب السوري.
في الثانوية العامة، كان ثمة أستاذ غير متمكن من مادته في مدرستنا، فقد كان يرد على كل مداخلة من أي طالب بكلمة واحد :”بالضبط.. بالضبط كذلك”، أياً كانت مداخلات الطلاب، وأياً كانت تناقضاتها وأخطائها، فدوماً كان يثني عليها ويراها صحيحة تماماً. لم يكن يهم الأستاذ المستقبل العلمي والفعلي للطلبة وبناء أذهانهم، كان يهمه أن ينفذ بجلده من ملاحظاتهم. كان الأستاذ يحس في باطن وعيه بأنه متهم بقلة درايته بمادته، فكان يدفع عن نفسه أي جدال أو تعمق عبر تلك الكلمة التي كان يراها لطيفة “بالضبط”، لكنه بتلك اللطافة التي كان يعتقدها، قضى على ذهن كل الطلبة، وعلى قدرته على تطويره لذهنه نفسه. على المنوال نفسه يحس السوريون في باطنهم بانهم متهمون، فيدفعون بصكوكهم، وإن كان على حساب عقلهم.
الكثير من ذلك انتهى مع بدء الثورة، بات السوريون بشراً طبيعيين.
المستقبل