صفحات العالم

النظام يتغوّل مع انطلاق مرحلة «ما بعد الأسد»


عبدالوهاب بدرخان

لم يعد مفهوماً على الاطلاق ما معنى وما هدف الفرص الزائدة التي تُعطى للنظام السوري، طالما أنه يستغلّها لمواصلة القتل والتدمير. اذا كان العالم اعتبره فاقداً الشرعية، تحديداً لأنه يقتل شعبه، فإن العالم فقد كل صدقية اذ يتيح له هذا التغوّل. وهو انتقل أخيراً من التقتيل الى ارتكاب المجازر المبرمجة جغرافياً وديموغرافياً وطائفياً، وأصبح تهجير السكان من قرى وبلدات، ومن مدن كبيرة أو متوسطة، إحدى وسائله لكسر الانتفاضة وقهر المواطنين وتشريدهم ونهب ممتلكاتهم. وباتت أوساط «تنسيقيات الثورة» في الداخل والمعارضة في الخارج ترصد التجمعات السكانية السنّية الواقعة بين تجمعات علويّة لتنذرها باحتمال استهدافها للتهجير، بالقصف العنيف أولاً ثم بدخول جحافل الأمن و «الشبيحة». هذا ما شهدته الحُولة والقبير، ثم الحفّةّ حيث لم يجد المراقبون الدوليون أي دليل على وجود حياة فيها، اذ أقفرت بعد ثلاثة أيام من الحصار والقصف. رأوا أبنية ومنازل مهدّمة ومنهوبة. رُفعت الجثث ما عدا واحدة، لكن آثار الدماء كانت هنا وهناك. ولعل الأكثر اذهالاً كان اعتراض الأهالي سيارات المراقبين لمنعهم من دخول الحفّة. فالمقتلة كانت تدور في البلدة وشاء الموالون للنظام، للطائفة، للقتلة، أن يؤمّنوا لهم الحماية.

قطعاً لم يعد هناك شعب واحد، ولا دولة واحدة. أسماء المناطق الاخرى المرشحة للمجازر والتهجير تُتداول بين السوريين. كثيرون يحاولون المغادرة مسبقاً. لا يريدون أن ينتظروا الكارثة. وتصاعدت أخيراً الشكوى من أن العواصم القريبة والبعيدة تبدو كأنها توصد أبوابها. فدول الجوار تواصل تعويق الدخول أو المرور، خصوصاً الأردن، أما لبنان فباتت حدوده من الجهة السورية أشبه بالمصيدة، اذ تستنسب الحواجز تسهيل العبور وفق الهوية والمنطقة التي جاء منها العابرون، وبالأخص وفق الرشى التي تقدّم الى العناصر الأمنية. اما الدول الغربية فلم تعد تمنح تأشيرات، وبعد مغادرة السفراء يجد حاملو الجنسيات الاوروبية مثلاً أنهم مهملون ومتروكون لمصيرهم، وحين يسعون الى المغادرة بوسائلهم لا يُسمح لأفراد عائلاتهم بمرافقتهم اذا لم يكونوا أيضاً من حاملي الجنسيات.

تزامن قرار لجنة المراقبين تعليق أعمالها مع نهاية «مهلة الـ24 الساعة» التي أنذر النظام بأنه سيبدأ بعدها هجوماً شاملاً. كان ذلك اعلاناً رسمياً بإنهاء «التزامه وقف اطلاق النار» الذي لم يلتزمه أبداً. وعلى رغم أن كوفي انان يعتبر النظام المسؤول الأول عن العنف وتصعيده، إلا أن كبير المراقبين لم يربط قراره بذاك الانذار، ما نال استحساناً من النظام وكأنه حصل على مشروعية للاستشراس. وظهرت بوادر الهجوم بالاستخدام الكثيف لسلاح الجو، فبعد طلعات متفرّقة في الشهر سابقاً أصبحت الوتيرة عشرات الطلعات يومياً، لكن أحداً في الخارج لم يشر الى ضرورة حظر الطيران. حصل سجال كلامي سقيم بين هيلاري كلينتون وسيرغي لافروف حول المروحيات الحربية التي تبيعها موسكو الى دمشق. وكذب الروسي حين قال إن بلاده لا توفر للنظام السوري أسلحة يمكن استخدامها ضد الشعب. تشهد على ذلك أحياء الخالدية وباب تدمر وجورة الشياح والصفصافة في حمص حيث يتواصل التدمير المنهجي للمدينة، وعلى رغم استغاثات السكان المحاصرين والتحذيرات المتكررة في عواصم الغرب من مجازر متوقعة لم يكن هناك أي مسعى للإغاثة. قلب حمص يدُكّ لاقتلاع من تبقى من أهل المدينة، وهو على وشك أن يفرغ من سكانه. لعله لم يعرف مثل هذا الضيم منذ عهد الدويلات. ومثلها دير الزور حيث دُمّر حي الجورة أهم أحيائها ويُقدَّر أن ربع سكانها انتقلوا الى الحسكة. هذا الهجوم شمل ريفي دمشق وحلب وجعلهما في حال حرب فعلية لكن غير متكافئة.

إنها محاولة اخرى يقدم عليها النظام لـ «حسم» المواجهة، حسم يرمي أولاً الى استباق اكتمال تسليح المعارضين الذين برهنوا بالقليل الذي حصلوا عليه أنهم يستطيعون رفد حال الانتفاضة الشعبية على الأرض بشيء من الندّية للنظام، لكن تساؤلاتهم كثرت أخيراً عن سبب الفرملة المفاجئة لتسليمهم شحنات أسلحة نوعية أُبلغوا أنها وصلت فعلاً وحُجبت عنهم، ولا تفسير لديهم سوى أن الولايات المتحدة هي التي جمّدتها لاستكمال اتصالاتها ومشاوراتها.

كما يرمي «الحسم» هذا الى استباق تنضيج المشاورات الروسية – الغربية المقبلة، ومنها اللقاء الذي تم فعلاً بين باراك اوباما وفلاديمير بوتين، خصوصاً بعدما تأكد ان الاتصالات تتركز أكثر فأكثر على «ما بعد الأسد». صحيح أن وزير الخارجية الروسي نفى ما كشفه نظيره الفرنسي لوران فابيوس، إلا أن الروس يعرفون أنهم اذا لم يضعوا رأس النظام على الطاولة فلن يتمكنوا من استدراج أي مساومة أو صفقة. غير أن الشعب السوري الذي يتعرّض حالياً لأعتى عدوان عليه من النظام، وكذلك الشعوب العربية المترقبة بحزن والآملة بحل قريب في سورية، قد يطول انتظارها أكثر قبل أن يظهر الضوء في نهاية النفق. وعندما يقول بوتين إن «نقاطاً مشتركة» تم التوافق عليها مع أوباما، فهذا لا يعني أنهما أحرزا تقدماً أبعد من التفاهمات التي سبق أن توصل اليها مساعدوهما خلال مشاورات الشهور الماضية. قيل إن مجرد صدور بيان اميركي – روسي مشترك عنى أن الدولتين في صدد العمل معاً، لكنهما لم تتفقا بعد على مجمل التفاصيل.

كان التفاهم الأهم، الذي جُدّد تأكيده على ما يبدو، أن «لا إسقاط للنظام» بتدخل خارجي و «لا سحق عسكرياً لانتفاضة الشعب» بغطاء روسي. وعلى ذلك استعاد الجانبان دعمهما لمهمة كوفي انان طالما أنها انبثقت أساساً من توافقهما «بما في ذلك التحرك باتجاه انتقال سياسي الى نظام ديموقراطي تعددي يتفق عليه السوريون أنفسهم في اطار سيادة سورية واستقلالها ووحدة أرضها» (وفقاً للبيان)… لكن مع ضرورة «وقف فوري للعنف»، الشرط اللازم للشروع في أي مسعى سياسي. فأي تحرك ضمن «خطة انان» يلقى ترحيباً من موسكو كونه يمنحها دوراً رئيساً في ادارة الأزمة، لذلك فهي قد توافق على زيادة عدد المراقبين وعلى تفعيل بنود الخطة كافة، وقد تنفتح على العمل لفتح ممرات انسانية، اذ بدا الاميركيون مهتمين به في الفترة الأخيرة، خصوصاً بعد تكاثر المدن والبلدات المعلنة «منكوبة». لكن أي توافق اميركي – روسي ظاهري لا بد من أن يُؤخذ بحذر شديد، فلا شيء يوحي فعلاً بأن اتفاقاً قد حصل، وأن بوتين نال كل ما أراد لينفذ كل ما يُتوقع منه لإنهاء الأزمة السورية.

في أي حال، لا يبدو الجهد المبذول (من اسطنبول الى القاهرة) لإيجاد اطار سياسي «توحيدي» للمعارضة بعيداً من مناخ التعويل مجدداً على «خطة انان»، اذ لا يزال هدفها شبه المصرّح به هو «نقل السلطة». ولعل هذا المناخ يوضح أسباب تصعيد العنف من جانب النظام، والإبطاء في تسليح المعارضة من جهة اخرى. لكن اذا كانت هناك أخبار جيدة فعلاً في لقاء اوباما – بوتين، فالأحرى أن تظهر سريعاً لأن الوقت، في سورية، من دم.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى