صفحات العالم

النظام يخشى التظاهرات ووقف النار وإطلاق المعتقلين والحل السياسي


عبدالوهاب بدرخان *

ينقل الزوار النادرون لدمشق، من وسطاء وأصدقاء وأزلام وأبواق، أحاديث وانطباعات من لقاءاتهم مع الرئيس السوري أو المحيطين به، قد تختلف بطريقة عرضها إلا أنها تلتقي عند النهاية ذاتها: إنكار الحقائق ونفيها، ورواية واحدة للترويج. يخرج الوسطاء محبَطين لا يدرون كيف يُقنعون النظام بالاعتراف بما تغيّر من أحواله وأحوال سورية ليتمكنوا من العمل معه في معالجة الأضرار. ويخرج الأصدقاء -كالروس مثلاً- متشجعين بما يعتقدون أنه مرونة لمسوها لدى النظام وبالحجج التي يتزوّدونها لدعم مصالحهم ومقارعة الخصوم، لكنهم كلما حاولوا استخلاص سياسات لا يجدون ما يمكن الاستناد اليه غير رزمة من الادعاءات، وحتى «الالتزامات» صارت كلاماً في كلام. أما الأزلام والأبواق، فهم مجرد زبانية عليهم أن يبثّوا التطمينات رغم تأكدهم بأن الوقائع كذّبتها دائماً، ولا يبالون بمصداقيتهم لدى الناس بل فقط عند النظام الذي يستخدمهم.

رغم عملية الإنقاذ الروسية–الإيرانية، وفي اللحظة الأخيرة لـ «خطة» كوفي انان، لا تزال حظوظ الفشل أقوى. ورغم أن إرسال بضعة مراقبين دوليين أوحى بولادة ثانية لمهمة انان وهي تترنّح، إلا أن مغزى قرار مجلس الأمن يكمن في أنه الأول في سلسلةٍ ستتبع لتأكيد «تدويل» الأزمة السورية. ثانياً في كونه ارتكز الى «خطة انان»، التي لم تعد مجرد نقاط مقترحة بل إلزامات حاول النظام التملّص منها ثم اضطر لقبولها بإصرار من حليفيه الرئيسيين، وثالثاً في المواظبة على ابقاء النظام تحت الضغط، فهذا هو المتاح حالياً في ظل انقسام المجتمع الدولي، اذ كان يجب نزع احتكار ادارة الأزمة من قبضتي النظام الذي لا يتقن سوى القتل، والثنائي الروسي–الايراني الذي يحاول جاهداً استثمار فائض القوة لدى نظام يعلم جيداً انه انعطب.

صحيح أن القتل يضع حداً لظهور معارضة قوية وموحدة في الداخل، والترهيب يحول دون توحيد معارضتي الداخل والخارج بمعزل عما بينهما من اختلافات فكرية أو فئوية. لكن هذا لم يمنع ترسّخ الحقائق الجديدة في سورية، وأولى هذه الحقائق وأهمها أن هذا النظام لم يعد يصلح لسورية. انتهى عمره الافتراضي، وانكشفت التركيبة التي ابتدعها باسم «الاستقرار» تارةً و «الممانعة» او «المقاومة» تارةً أخرى، فيما أهمل الداخل كلياً. يمكنه أن يصدّق كل الروايات التي يفبركها، وأن يعتمد على القوة والبطش، بل يمكنه أن يجرّب إرباك المنطقة، لكنه سيؤكد عندئذ اندفاعه الى نهايته المحتومة، ولن يستطيع الإقناع بأن الحكم في سورية ليس مقبلاً على تغيير جوهري وعميق. والأهم أنه لن يحصل على «الحل السياسي» الذي يحلم به جامعاً الموالين والمعارضين تحت ولائه، فهذه خدعة لم تعد قابلة للتسويق.

كانت تجربة المراقبين العرب، على تعاستها، كشفت طبيعة النظام وكيف أنه لا يستطيع الاستمرار إلا محمياً بالعنف. أما خطة انان، ففضحت عجزه عن وقف اطلاق النار، فهو كافح لكي يُعامل بصفته ممثلاً سيادة الدولة وسلطتها الشرعية، وقد خاطبه انان باعتباره كذلك، بل بنى خطته على هذا الأساس. لكن المتوقع من أي دولة ذات سيادة وأي سلطة شرعية، مخالف تماماً لممارسات النظام، بدليل أنه يسيء استخدام السلطة والقوة ولا يبدو معنياً بسقوط عشرة آلاف قتيل وإصابة عشرات الألوف، واعتقال، أو إخفاء أو تصفية عشرات ألوف آخرين من المواطنين، وكلّها أرقام متحفظة، عدا الدمار الذي تعمّدته قواته، وكذلك الترهيب والترويع والتنكيل والاغتصاب والتعذيب. كل ذلك مسؤولية مَن؟ الشعب؟ لا، إنه بالنسبة الى العالم مسؤولية الدولة، اذا كانت دولة حقاً. وأي دولة حقيقية تبذل المستحيل لملاقاة شعبها ومصالحته ولحقن الدماء، لا لدفع مواطنيها الى طلب السلاح للدفاع عن أنفسهم، وبالأخص لتجنيب جيشها خسائر بشرية ناهزت (حسب مصادر النظام) الخمسة آلاف قتيل (قضى عدد كبير منهم بتصفيات ميدانية لرفضهم قتل المتظاهرين) وأضعافهم من الجرحى. لكن كيف يمكن ذلك مع نظام يقول أحد وجوهه: «ولا مليون قتيل يمكن أن يُسقِطوا هذا النظام»، ويقول آخر: «… حتى لو اضطررنا للاستغناء عن ثلث الشعب»؟

لن ينفذ النظام من خطة انان إلا ما يناسبه، فهذه كانت التوصية الروسية-الايرانية. إنه لا يخشى وقف النار فحسب، بل يخشى التظاهرات غير المسلحة، ولا يخشى اطلاق المعتقلين فحسب، بل يخشى فتح الأبواب أمام الإعلاميين، ولا يخشى تسهيل دخول المساعدات الانسانية فحسب، بل يخشى حتى «العملية السياسية الشاملة» وفقاً لتوصيف خطة انان التي تمثل في نظر النظام حقول ألغام تستهدفه، وهي لا تستهدفه، وانما تحاول أن تبني معالجة عملية للأزمة وتتطلب منه مساهمة باعتباره «الدولة»، لكنه أيضاً طرف وليس حَكَماً، فلو كان دولة تطبق القوانين الانسانية المتعارف عليها لما بلغ هذا الحد في مأزقه، ولو كان دولة لما سمح لوزير داخليته بأن يدعو النازحين والمهجّرين الى العودة طالما أنه مسؤول عن تطفيشهم ولم يحترم أمنهم وأمانهم وكراماتهم يوم كان ذلك في مستطاعه.

قد يكون الأمين العام للأمم المتحدة فاجأ الكثيرين حين أعلن أن عدد النازحين تجاوز المليون سوري، بين الداخل والخارج، لكن النظام وأصدقاءه لم يبدوا معنيين، بل لعلهم يعتبرون هذا العدد عبئاً مخفَّفَاً، ففي اليوم نفسه كان المندوب الروسي في مجلس الأمن أشبه بحفّاري القبور والقتلة بدم بارد وهو يساوم على الكلمات في القرار الخاص بإرسال مجرد ثلاثين مراقباً دولياً، بل قال: «انطلاقاً من الاحترام لسيادة سورية حذرنا من المحاولات المدمّرة للتدخل الخارجي» أو فرض أي نوع من «الحلول الوهمية»، ويعني ذلك أن مهمة أنان تحظى بدعم متماهٍ من النظامين الروسي والسوري، فالحلول «الواقعية» عند روسيا هي التي تبقي النظام ولو على جثة سورية وجثث السوريين.

طالما أن نظام دمشق لا يرى في نقاط انان الست سوى عملية استدراج لإسقاطه، فلا يمكن توقع امتثاله لها، ففي الجوهر تتعامل الخطة مع منطق الأحداث ولا تريد القفز الى النتائج، لكن النظام الذي يتطلع خصوصاً الى الشق السياسي، يدرك أن الطريق اليه يمرّ بالضرورة بوقف العنف، لذلك فهو سيفضّل دائماً خطّته على خطة انان، حتى لو لم يكن قادراً على تنفيذ أي منهما. وإذ تحاول الجهود الدولية تفادي تكرار السيناريوين العراقي والليبي، فإنها تسعى الى الحفاظ على الجيش ومؤسسات الدولة، فيما يصرّ النظام على إبقائها رهائن في قبضته. أما روسيا، التي توجّه نقداً قاسياً لتدخل «الناتو» في ليبيا وتدّعي أنها تقف سدّاً منيعاً أمامه، فإنها تقوم بدور مماثل في سورية لكن في اتجاه معاكس، ولن تتوصل الى نتائج أفضل.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى