النقد يأتي متأخراً ولا يأتي/ عباس بيضون
نعثر ونحن نراجع تاريخنا الثقافي على بضع مجلات تكرست لدعوات أدبية ونظّرت لها، مجلات وكتب مهدت لمدارس جديدة واحتفت بنتاجاتها وأسست لها على المستوى الإبداعي والمستوى النظري. في وسعنا القول إن ثمة حركات أدبية تعززت بمواكبة نظرية، حركات يمكننا ان نسميها، برضا، نقدية. لنا في هذا السبيل أن نعود إلى «الديوان» المصرية التي قام عليها العقاد وعبد القادر المازني، أن نرجع إلى «حركة ابولو»، أن نعيد قراءة «الغربال»، ان نراجع مجلة «الآداب» ومجلة «شعر». هذا إذا أدركنا بعضه او كله انكشفت لنا حركة نقدية. لم يقف النقد عند هذا الحد، تابع النقد الجديد الغربي وسار على آثاره، وقدم النتاج الروائي والشعري، ولنا الآن النقد الصحافي الذي يقف عند الاعمال الحديثة. قلما يصدر كتاب لافت لا يحظى بكثير من المعالجات الصحافية، الأمر كذلك، فلماذا نسمع هنا وهناك نعياً للنقد الأدبي في ثقافتنا، ولماذا نسمع إنكاراً يصل إلى عدم الاعتراف بهذا النقد. لماذا نسمع ان لا نقد عندنا، وان ما نظنه نقداً راسخاً في ثقافتنا ليس كذلك، وما نعتبره اليوم نقداً او نظرية في النقد ليس سوى مقتطفات سريعة من آثار نظرية غربية، لا يماشيها عكوف على النتاج المحلي. ما نسميه الآن نقداً ليس أكثر من تغييب لمدركات نظرية لا يجري تَمَثُّلُها وإعادةُ إنتاجِها في قراءات للنتاج الأدبي الجديد ليكون هناك نقد بالفعل. أما تغييب المقدمات النظرية، بدون قدرة على تمثلها في معالجة نقدية مباشرة، فلا يرسي نقداً أو يؤسس لنقد. ليس له إلا فائدة مدرسية.
لو عدنا إلى الوراء، إلى تاريخنا الأدبي، ماذا نجد عن هذا التاريخ، في أقدم حقبه وفي اعرقها، ماذا نعرف عن تطور الأدب في بدايات العصر العباسي وكيف تطور النثر من القرآن إلى ابن المقفع والجاحظ وألف ليلة وليلة، هل نجد في السوق تاريخاً أدبياً؛ كتب بارت كتاباً رائعاً عن راسين، فماذا كَتَبَ النُقَّادُ الجدد عن تراثنا الأدبي. هل نجد في السوق كتابا مهما عن طرفة بن العبد والنابغة الذبياني، ولنغضّ عن ذلك، فماذا نجد عن ركنَي شعرنا المتنبي وابي تمام. ماذا نجد عن تطور النثر. إذا كنا لا نجد اضاءة على المتنبي، إذا كنا لا نملك تاريخا أدبيا، فهذا يعني ان النقد هو الشعرية بلغة ارسطو غير موجود عندنا. هذا يعني اننا لم نقرأ المتنبي برؤية عصره، فكيف ننتظر ان نقرأه برؤية عصرنا. نتغنى بالمتنبي وابي نواس وسواهما، ونغيّب اشعارهم، لكن ماذا عن عالم المتنبي، ماذا عن عمل المتنبي الشعري، ماذا عن حضور عصره وثقافة زمنه في هذا الشعر، ماذا عن عالم أبي نواس؟ لا نجد عن المتنبي وابي نواس أثراً كاشفاً، لكننا لا نجد ذلك أيضاً عن أبي تمام وبشار بن برد. لا نجد مع تعصّبنا للقديم وتباهينا به أي تاريخ فعلي لهذا القديم وتشابكه الثقافي والسياسي. أي اننا نجد تراثا كاملاً لم يجر سوى حفظه واعادته، تراثاً لم يجر تمثله ولا هضمه ولا تقصيه. نجد تراثاً لم يُقْرَأ، إذا كانت القراءة تَمَثُّلاً واستعادة فإنها لم تحصل. وإذا كنا بعيدين هكذا عن ارثنا الأدبي والفكري فكيف سنكون بالنسبة لتراثنا الحاضر.
مهدت أبولو والديوان لمفهومٍ معاصرٍ للشعر، مصادره الأساسية رومنطيقية ونتجت عنهما حركة جديدة في الشعر ومفهوم جديد له، لكن هل نجد فيهما أكثر من الدعوة كما هي في عناوينها الغربية. هل وجدنا فيهما إعادة قراءة للتراث القديم على ضوء هذه العناوين وتلك المفاهيم، هل نجد فيهما مراجعة لتاريخ الشعر على هدي تلك المفاهيم.
ثم كانت «الآداب» و «شعر». مجلتان حملتا على عاتقهما الدعوة لقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، مجلتان كانتا مَثَلاً في جرأتهما وانفتاحهما، تبنتا الدعوة وفتحتا المجال، ونقلتا إلى العربية من النتاجات الغربية بعض أفضل ما فيها، واستعادتا بعض المنسي العامر من التراث. كان هذا عملاً مثلثاً، لم يغفل حتى عن البحث عن جذور فلسفية وعن رؤى معاصرة. لا بد ان عملاً كهذا تطلب درجة عالية من البحث والجهد، ولكننا مع ذلك نسأل ما الذي أضفناه من نقد؟ لقد استفادتا من التراث الغربي وخرجت منهما كوكبة من الشعراء والسؤال، هو كيف قرأت هؤلاء الشعراء، هل سبرت عوالم بدر شاكر السياب وادونيس ومحمد الماغوط وصلاح عبد الصبور وسواهم؟ أي كتاب متقدم قرأهم بل وأي دراسة مهمة دارت حولهم؟ لقد قامت حركتان في الشعر بدون مواكبة نقدية كافية. كتابات في النظرية وترجمات مهمة وكشوفات داخل التراث والحركة الصوفية بوجه خاص على يد أدونيس. قامت المجلتان بعبئهما، لكن الأمر توقف هنا. بعدهما ما زال شعر التفعيلة وما زالت قصيدة النثر، لكننا لا نعرف كيف تطورتا، وكيف توزعتا. ثمة نتاج شعري غزير لكنه مهجور نقدياً. ما زال الشعر ينتج لكن تقريباً بلا قراءة، وأعني بالقراءة التمثل ومشاركة القارئ. هذا في الشعر الذي ينحسر الآن ويفقد قراءة المهتمين وغير المهتمين. اما الرواية فقد كانت منذ البداية مهجورة نقدياً، فلا نأمل ان نجد حولها سياقا نقدياً منتظماً. يصعب تماماً إيجاد تاريخ للرواية بما في ذلك مصادرها الثقافية وتياراتها وحركاتها. لكننا في النهاية نقول ان النقد تأخر كثيراً عن الأدب، وحين ظهر لم يكن سوى بضعة عناوين ومصطلحات، ما زلنا نتداولها ونعيد استعمالها، فيما هو لفرط ذلك يفقد، أكثر فأكثر، معانيها، التي تغدو مع الوقت طنانة وجوفاء، حتى ان في وسعنا ان نتساءل إذا كان النقد موجوداً عندنا، أو أن النقد يتصل بنمو ثقافي لم نصل إليه، لذا بقينا على العتبة لا نقرأ تراثنا ولا نقرأ نتاجاتنا الحاضرة. نكتب لغير قراء، وننظر لغير مهتمين، ونكتفي بالعناوين التي تزداد انتفاخاً وطنيناً مع الوقت.
السفير الثقافي