صفحات الرأي

النقلات التاريخية الخمس للربيع العربي


محمد الحدّاد

مهما تكن تقلبات «الربيع العربي» وإحباطاته وخيباته في بعض البلدان، فإنه حقّق في المجتمعات العربية عموماً نقلات نوعية لم تشهد مثيلاً لها في كلّ تاريخها القريب والبعيد، وهي نقلات ستغيّر مستقبلها ولو على المدى الطويل.

تتمثل أولى هذه النقلات في رفع القداسة عن السلطة السياسية وإخراجها من دائرة «التابوات» التي لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها إلا وهو يجازف بنفسه، كي تصبح شأناً بشرياً عادياً يخضع للمراجعة والنقد ويمكن الحديث فيه بصوت مرتفع والسخرية من رجاله بالنكات اللاذعة والرسوم الكاريكاتورية. سيصبح عادياً لكلّ إنسان أن يرى نفسه جديراً بالترشح لأي منصب والإدلاء بدلوه في النقاش العام. فالناس عندما يرون من كانوا بالأمس القريب مضطهدين أو مهمّشين أو مقصيّين يصلون إلى أعلى درجات السلطة تتقلص لديهم الهوّة التي طالما فصلت الحكم عن المحكومين في التاريخ العربي الإسلامي. سعت غالبية الأنظمة الشمولية العربية على مدى عقود إلى تصوير قادتها بصورة المتمتعين بخصال وكفاءات تتجاوز البشر العاديين، تعميقاً لتلك الهوّة. ولعلّ إصرار الليبيين بعد التحرير على عرض جثة القذافي عارياً أمام أنظار الشعب، رغم ما يثيره الأمر من امتعاض واستهجان، يعبّر تعبيراً جيداً عن هذه الإرادة في الخروج بالشعوب من الخوف المسيطر عليها المشلّ لقدراتها والتجرّؤ على النظر إلى جلاديها بالشماتة أو الشفقة، ولكن من دون رهبة. ولفت نظري تعليق سيدة ليبية قالت للصحافيين بعد الاطلاع على الجثة العارية، إنها اكتشفت أن القذافي قصير القامة بعد أن عاشت كل حياتها تظنه ضخم البنية فارع الطول. فكأنّ المواصفات الجسدية كانت تتحدّد بالرهبة!

والنقلة الثانية هي التضييق على إمكانية تزييف الانتخابات والاستفتاءات، على ما أحاط بانتخابات «الربيع العربي» من بعض مساءلات وشكوك. ولكن لن يعود ممكناً بعد اليوم تزييف الانتخابات بالطرق الفجّة التي عرفها العالم العربي في العقود الماضية. فالأنظمة العربية كانت توفّر في الغالب دساتير وقوانين ومنظومات انتخابية مستوحاة من أرقى الديموقراطيات في العالم، لكنّ التزييف كان صناعة وزارات الداخلية واختصاصها المفضل، يتمّ في غرف مغلقة ويصعب على المعارضة تقديم الأدلة والحجج على حصوله. وهذا من أكبر اسباب الإحباط الذي يصيب المواطن العربي، فلو كانت هذه الأنظمة تمتنع من الأصل عن تنظيم الانتخابات، لكان الأمر أهون… أما أن يعيش المواطن دورياً مهزلة الانتخابات المزيفة، بل يجبر في كثير من الأحيان على الذهاب الى مكتب الاقتراع وهو يعلم النتيجة مسبقاً، فإنه يتعرّض بذلك إلى أقصى أنواع الإذلال والتحطيم المعنوي عندما يجبر على أن يساهم في الاستخفاف بنفسه. لن يكون ممكناً بعد اليوم أن تُزَيَّف انتخابات عربية في شكل مفضوح وواسع مثلما حصل في السابق.

النقلة الثالثة تتمثل في ترسيخ شعور الخوف من المحاسبة لدى المسؤولين، ولو بعد وقت طويل. ذلك أنّ استمرار النظم السابقة منح المقربين منها والعاملين باسمها شعوراً بأنهم فوق المحاسبة، فتشكلت شرائح طفيلية مارست صلاحيات ضخمة في كل المجالات، ومنها المجالات العادية المتعلقة بالحياة اليومية للمواطنين، فكانت تتخذ القرارات ذات التبعات الخطيرة على المجتمع وتتصرّف بالنفوس والأموال على هواها، وهي متيقنة من أن غياب التداول على السلطة يجعلها إلى الأبد خارج المساءلة والمحاسبة. كان المواطن في السابق يعيش على رعب أن يطاوله هذا النفوذ المطلق لممثلي أجهزة النظام، واليوم يتحوّل هذا الرعب إلى نفوس المسؤولين الذين يدركون أنهم تحت المراقبة والمحاسبة فيتصرّفون بضمير وتوازن، مدركين أن عصر الصمت انقضى وأن كل مواطن قادر على التظلّم والمعارضة إذا شعر بالضيم.

النقلة الرابعة هي تعوّد المواطن منذ الأحداث الأخيرة على التعبير الحرّ والاحتجاج السلمي، ومع أن إمكانات التضييق على الحريات تبقى من الأمور الواردة، لا سيما باستعمال مبرّرات دينية في غير موضعها، فالأكيد هو أن سقف التعبير سيظلّ أعلى بكثير مما كان في السابق، وسيصعب على أي حكومة أن تلجم أفواه مواطنيها وتمنعهم من الحديث والنقد. قد تتلكأ في الأخذ بوجهات نظرهم وتراوغ إزاء مطالبهم وإراداتهم، أما المنع فسيغدو مستحيلاً، لأن المواطن أدرك أن الكلمة البسيطة يمكن أن تتغلّب على الماكينات القمعية الضخمة وعلى المؤسسات الكبرى للدعاية والتلاعب بالعقول.

أخيراً، يمثل إدماج التيار الإخواني في العمل السياسي العلني نقلة نوعية بالغة الأهمية، ولا أتطرق إلى المسألة من جانب صدق التزامات هذه التيارات بما تعلنه من مبادئ، ولكن من جانب تعامل الجماهير مع رموز هذه التيارات. فهذا التعامل سيصبح أكثر واقعية، سيحاسب المواطنون هؤلاء على المنجز لا على الشعارات والوعود، وسيرتفع عنهم نوع من القداسة أحاطوا بها أنفسهم. ذلك أنّ تقديس الأنظمة الشمولية لنفسها جعل المقهورين ينظرون إلى المعارضة السياسية التي مثلتها الحركات الإخوانية بنوع من التقديس، فكأن «الإخوان» بمثابة «سوبرمان» جاء ينازل الشيطان الأكبر، فقد كانوا بين معارضي تلك الأنظمة الأكثر جرأة والأقدر على التضحية، وكانت شعبيتهم واسعة، فإقصاؤهم سابقاً عن العمل السياسي كان إقصاء لجزء مهمّ من المواطنين الملتفّين حولهم. طبعاً، ليس من المستبعد أن يعمل «الإخوان» مستقبلاً على مصادرة الثورات العربية وتحويلها إلى ملك شخصي حصري، ولكن يمكن أيضاً أن تسير الأمور في اتجاه تحوّلهم بأنفسهم إلى أحزاب سياسية عادية وتخلّيهم عن أحلامهم الطوباوية، مثلما تخلّى اليساريون في أميركا اللاتينية عن أحلامهم الطوباوية عندما وصلوا إلى السلطة. ولفت نظري منذ أيام، إشراف رئيس الحكومة التونسية على حملة وطنية للنظافة، وتذكّرت ظهوره الأول بين أتباعه بعد توليه رئاسة الحكومة وحديثه عن بداية الخلافة السادسة مع حكومته. على الأقلّ، يدرك السيد الجبالي اليوم أن طريق الخلافة طويل وأنه يبدأ بتنظيف المدن التونسية التي أصبحت مملوءة بالقمامة تهدّد صحّة الأطفال بالسرطان. فالناخبون سيحاسبونه على نجاح حملات التنظيف أو فشلها قبل أن يحاسبوه على رؤاه في استرجاع الخلافة. من المهم الاستفادة من كلّ الطاقات على أساس واقعي يضمن المصالح المشتركة لجميع المواطنين، بعد فشل سياسات الإقصاء لفئات محددة.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى