صفحات الثقافة

النكبة في الفخ السوري/ عبده وازن

 

تكاد المأساة السورية تُنسينا نكبة فلسطين ونكستها ومآسيها المتواصلة منذ أن ارتكبت الصهيونية جريمتها، وهي إحدى جرائم العصر التي لا تقل رهبة عن محرقة أوشفيتز. هذه النكبة ننتظر ذكراها عاماً تلو عام وهي تحل في فصل الربيع، في الخامس عشر من شهر أيار (مايو) الذي يسمّيه المعجم العربي «نوار»، مع اننا ندرك تمام الإدراك أن انتظار هذه الذكرى لم يعد يجدي بعدما توالت الهزائم العربية، لا سيما الهزائم الأهلية، الأشد قسوة و «مضاضة» كما يفيد الشعر العربي. باتت هذه الذكرى مثل ذكرى النكسة وسواها، بمثابة وقوف على الأطلال، في ما يرافقه من رثاء وندب ومناحات… لكننا نصر على هذه الذكرى مثلما يصر أهل المفقودين، مفقودي الحروب، على التمسك بالامل، ولو وهماً. الذكرى تمنحنا قبساً من عزاء، نحن العرب المغالين دوماً في وجدنا ووجدانيتنا.

لم يعد مجدياً حقاً الوقوف عند ذكرى النكبة بعدما تخطت نكبة سورية كل الحدود، قتلاً جماعياً لا فردياً فقط، وتشريداً وتهجيراً وتجويعاً وإذلالاً وسحقاً… ما يحصل الآن في سورية من مآسٍ بات يفوق الوصف، والإجرام الذي يمارسه جنود «الصمود والتصدي» تجاوز إجرام عصابات الهاغانا الصهيونية، أما إحراق المدن والأحياء، والبشر الأحياء، بـ «براميل» البارود فطريقة فريدة لم تخطر في بال العسكر الاسرائيلي. الطائرات السورية تمطر نيراناً وحمماً ولكن فوق اراضي البلاد وليس خارج الحدود. الاطفال الذين قتلوا تحت قذائف النظام ونيرانه «الصديقة» يقاربون عدداً الاطفال الذين حصدتهم المناجل الاسرائيلية الحارقة، لكن النظام السوري كان أشد بطشاً في استخدامه سلاحاً وحشياً هو السلاح النووي.

لقد خفت جمر النكبة وشحبت نارها ولم تعد مشاعرنا الوطنية قادرة على إذكائها. العدو الاسرائيلي هو عدونا التاريخي وجرائمه ستظل محفورة في قلوبنا وفي ذاكرتنا الجماعية. هو العدو الذي لا يسعنا إلا أن نبقيه عدواً ما دام يمارس الإجرام ولا يعترف بحق ولا يؤمن بسلام. أما الأخ والشقيق الذي استحال عدوّاً، عدواً لشعبه وعدواً لأحلام شعبه وللحرية والعدالة والكرامة والحق فهو عدو أيضاً، عدو في الداخل، عدو عربي، عدو من لحم ودم عربيين. وما أشد ضيم الأخ عندما ينقلب عدواً لأخيه، عدواً حقيقياً لا رحمة لديه ولا وجل.

في ذكرى النكبة التي تحل الآن، عدت الى بضعة كتب تتناول أدبيات هذه النكبة كما تجلت في روايات وقصائد ونصوص أخرى، بغية استرجاع المشهد الادبي «النكبوي»، لكنني سرعان ما شعرت بشيء من الضيق والسأم. هذا الادب امسى بعيداً عن واقعنا، وطابعه المأسوي ما عاد يهزنا ونبرته الحماسية والنضالية المرتفعة في الشعر أضحت خفيتة جداً.

لم يعد هذا الادب الذي انكبّ على كتابته أدباء أصفياء وصادقون بُعيد حدوث النكبة، ما عاد قادراً على ان يجيب عن الاسئلة السياسية والوجودية التي راحت تتراكم بعد المآسي التي حصلت من ثمّ، وفي مقدّمها نكسة العام 1967. أضحى هذا الأدب ومعه معظم أدب النكسة أيضاً، عاجزين عن تمثل المعنى الحديث للمأساة العربية المستشرية والتي صارت تشمل ميادين كثيرة، ميادين الحياة والهوية والجماعة والذات والأنا، ميادين السياسة والثقافة والتاريخ والوجود… أصبحنا نحتاج الى صنف جديد مما يسمى أدب النكبات والنكسات والهزائم والمآسي، وهذا أصلاً ما تجلى قبل الثورات، ويتجلى خلالها وسيتجلى بعدها أكثر فأكثر. وحدها مأساة الشعب السوري ستكون حافزاً على انطلاق ادب «نكبوي» و «نكسوي» سوري وعربي غير مألوف سابقاً. جرائم النظام التي تكاد تنسينا جرائم اسرائيل من شدة قسوتها وضراوتها ووحشيتها وغرائزيتها ستخلق وعياً مأسوياً لم نعرفه من قبل، بل ثقافة مأسوية بدأت معالمها تظهر في قلب الجحيم السوري، وكم ستزداد سوداوية عندما سنستفيق يوماً ونجد ان البلاد التي تدعى سورية انهارت بكاملها، بل تدمرت ولم يبق فيها حجر على حجر.

أما اطرف ما نشهده اليوم وسط هذه المآسي فهو صعود موجة التخوين والاتهام بـ «التطبيع» ووراءها جماعات «اصولية» من بقايا «البعث» و «التقدمية» غايتها الصمود والتصدي، وهذه الجماعات لم يفتها أنّ النظام السوري أدّى خدمة جلّى للعدو الاسرائيلي المتربّص بنا، خدمة لا تُقدّر فعلاً وهي تقديم سورية مدمرة على طبق من فضة الى اسرائيل ودولتها. والفضيحة الكبرى أن حزباً «علمانياً وديموقراطياً» هو «حزب الله» المذهبي النزعة والإيراني الهوى، هو متواطئ كل التواطؤ في هذه الخيانة العظيمة.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى