النموذج التركي والحالة الليبية
محمد نور الدين
سارع وزير الخارجية التركية أحمد داود أوغلو إلى زيارة مدينة بنغازي معقل الثوار الليبيين وهم في طريقهم إلى إطاحة العقيد معمر القذافي ليكون أول وزير خارجية، بل أول مسؤول أجنبي يزورها بعد سقوط نظام معمر القذافي، وكان أول وزير خارجية أجنبي يزور بنغازي في مطلع يوليو/ تموز الماضي .
تركيا كانت الأكثر ارتباكاً في مطلع الثورة عندما رفضت أي تدخل أجنبي في شؤون ليبيا ولا سيما حلف شمال الأطلسي، وأطلق رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان صرخته الشهيرة “وأي شأن لحلف شمال الأطلسي هناك” .كما رفض أردوغان إعادة الميدالية التي كان القذافي منحه إياها في الخريف الماضي .
ورفضت تركيا أن توقف التواصل مع القذافي وقدمت اقتراحات أكثر من مرة لحل الأزمة ومنها إجراء انتخابات نيابية حرة خلال ثلاثة أشهر يشارك فيها القذافي وعائلته ضمن حزب يؤسسونه .
وكان في أساس الموقف التركي مصالح اقتصادية استثمارية كبيرة في ليبيا ووجود أكثر من مئتي شركة تركية عاملة هناك، ونحو 25 ألف عامل ليبي في هذه الشركات .
ومن بين الأسباب التركية لمعارضة إسقاط القذافي أن فرنسا “عدوة” تركيا في الاتحاد الأوروبي والمتوسط، كانت السباقة ومن دون أي إذن أو قرار دولي إلى مباشرة الهجمات العسكرية على ليبيا .
لكن التطورات والضغوط اللاحقة على تركيا، فضلاً عن تبدل الظروف وموازين القوى في ليبيا، جعل تركيا تتغير 180 درجة في الموقف من نظام القذافي وتتحول إلى مشاركة في العمليات العسكرية، بل تحولت تركيا إلى رأس حربة في تنظيم المعارضة الليبية سياسياً عبر اجتماعات في اسطنبول، ومالياً عبر تقديم دعم مالي بمئة مليون دولار مع الإعلان لاحقاً عن تقديم مئتي مليون أخرى .
ولم يعد أي مسؤول تركي يتحدث عن فرنسا ولا عن الحلف الأطلسي كعامل مضعف للدور التركي .
واندفعت تركيا أكثر في تحولها من الأزمة الليبية بإظهار “أبوّتها” للثورة الليبية عبر الزيارة التي قام بها داود أوغلو إلى بنغازي وخطاباته “الثورية” عن المجاهد عمر المختار .
وترددت في الصحافة التركية حينها عبارات عن حفاوة استقبال حفيد العثمانيين في بنغازي كما لو أن الليبيين يتوقون إلى عودة “العثملي” إلى أرض عمر المختار .
واستأنفت تركيا سندباديتها من خلال مسارعة داود أوغلو إلى الإعلان عن زيارة قام بها فعلاً يوم 23 أغسطس/ آب الجاري إلى بنغازي ليقطف قصب السبق الإعلامي بعد انتصار الثورة وسقوط معظم مدينة طرابلس بيد الثوار .
وسارعت الدول الكبرى المعنية بالحملة الأطلسية على القذافي إلى الإعلان عن عقد مؤتمر للجنة الاتصال حول ليبيا في اسطنبول في اليوم التالي لزيارة داود أوغلو إلى بنغازي .
وفي مقالة لكاتب تركي أن النصائح التي وجهت إلى القذافي بالاتعاظ من نهاية الرئيس العراقي صدام حسين لم تجد صدى، والنصائح نفسها توجه لزعماء عرب آخرين للاتعاظ من نهاية القذافي .
لكن الكاتب يذكر أمراً آخر مهماً وهو أن بعض الزعماء العرب لم يفهموا النصائح التي حملها إليهم وزير الخارجية التركي أحمد داود أغولو وهي في جوهرها أن الظروف تغيرت وبالتالي يجب العمل كما تركيا أي حماية مصالحها ولو تطلب الأمر تغيير الموقف 180 درجة . وهو ما حصل فعلاً مع العقيد القذافي حيث تحوّل من “أخي معمر” إلى “ارحل يا معمر” .
والأمر ينطبق إلى حد ما على الموقف التركي من سوريا، حيث تدرّج من النصح إلى التحذير بل التهديد العسكري وقبل فوات الأوان إلى أن الفرصة لا تزال قائمة .ومن الجفاء مع إيران إلى زيارتها والتواصل بين قادة البلدين .
وبقدر ما تقدم تركيا نفسها نموذجاً للديمقراطية قد يصلح وقد لا يصلح للدول الأخرى حيث لكل حالة خصوصيتها، فإن الثابتة التي تقدمها هي أن المصالح لا تعرف معياراً واحداً، وأن الشاطر هو من يحفظ رأسه عند هبوب الريح . هكذا تدرّج الموقف التركي من “إسرائيل” من خطاب عال ضدها إلى خطاب متصالح، بل أحياناً “مهادن” . وهكذا حصل في الموقف من ليبيا .
وهكذا سيحصل في أي موقف من أي قضية مستقبلية تواجهها تركيا .
الخليج