صفحات العالم

النموذج المصري


سليمان تقي الدين

فاز مرشح المعارضة في انتخابات الرئاسة المصرية بفارق ثلاث نقاط. اختار الجمهور المصري الإسلاموي محمد مرسي ضد خصمه العسكري الفريق أحمد شفيق. حافظت العملية الانتخابية على قدر كبير من النزاهة. لم تكن مؤسسات النظام محايدة، لكنها لم تزوّر إرادة الناس. كان الجمهور حاضراً للدفاع عن اختياره في الميدان نفسه الذي أسقط حكم الاستبداد. هذه كلها مظاهر لمسار ديموقراطي يقبل المساءلة والمحاسبة ويحتكم إلى أكثرية الشعب. لم تنجح سياسة احتواء الثورة ولا تجويفها.

يتم انتقال السلطة من فريق حاكم إلى فريق آخر من دون سفك دماء ومن دون تدمير مؤسسات الدولة. حتى هذه اللحظة أنجز الشعب المصري هذا التحوّل التاريخي من مرحلة الاستيلاء على السلطة بالقوة الانقلابية إلى مرحلة الوصول إلى السلطة بالوسائل الديموقراطية. هذه الواقعة كافية لإبطال كل دعاوى الإحباط والتشاؤم والخوف من نتيجة الربيع العربي.

يقال إنه ربيع إسلامي يهدّد باحتمالات التضييق على الحريات وليس في مقدوره أن يعالج المشكلات الاجتماعية المعقدة والمتراكمة في إطار العقيدة وشعارات لا مدلول عملياً لها «كالإسلام هو الحل». لا ننكر هذه الاحتمالات ولا هذه المخاطر الناجمة عن استخدام الدولة أداة لتشكيل المجتمع وفق ترسيمة عقائدية لا طائل منها في مواجهة الحاجة إلى نظام تنموي مادي وبشري وعلاقات أكثر إنسانية للإنتاج والتوزيع ومنظومات متطورة للأمن الاجتماعي. لكن هذه التحديات لم تعد متروكة لفريق ضيّق ولا طبعـاً لدكتاتوريــات تـقرّر عـن الجمهـور طـموحاته ومصـالحه ومطالبه أو هي تقوم على تحويرها وتزويرها.

خرجت مصر من عهد الزعامة الفردية ومن حكم النخبة المستقلة عن هموم شعبها لكي تخوض في تجربة الميدان الذي يعبّر عن نفسه في الاختيار الانتخابي والتعددية السياسية. فإذا تمّ الحفاظ على آليات إنتاج القرار الوطني بهذه الوسيلة فلن تكون هناك مصادرة لقرار الجمهور أو تنحية له عن مسرح الأحداث. ولعلنا نجد أكثر التحفظات على حركة التغيير في العالم العربي صادرة عن جهات سياسية أو فئات مغرقة في طائفيتها ومقاومتها للتطوير الديموقراطي من منظور السيادة الشعبية. وفي بعض هذه الاتجاهات والمواقع نجد الديموقراطية مطروحة كنقيض لعلمنة السياسة ومدنية الدولة. وتحت شعار العلمنة يتم التقليل من أهمية الديموقراطية إما بادعاء عجز الجمهور عن استيعابها وممارستها وإما بذريعة الطابع الإسلاموي للأكثريات. وكأن الأقليات الإسلاموية أو غير الإسلاموية بريئة من النزوع الإقصائي والإلغائي للآخرين سواء أكانوا جماعات سياسية أم طائفية.

ومن أسف لم نختبر الديموقراطية ولا العلمنة بعد. ما خبرناه هو أنظمة سياسية وضعت الفكر القومي في موقع إلغاء تعددية المجتمعات العربية التكوينية والسياسية وصادرت قرارها وثقافتها وحقوقها، أو أنظمة استخدمت أشكالاً من الطائفية وامتيازاتها بوصفها ضمانة الأقليات أو ضمانة حجب التيارات الدينية أو الطائفية الواسعة من وضع اليد على الدولة والمجتمع. ومن سخريات الأمور أن يتصدّر فكر ديني أو طائفي أو مذهبي المواجهة مع فكر ديني أو طائفي أو مذهبي آخر.

كان التباس المسألة الديموقراطية في العالم العربي مردّه وضعها على طرف نقيض من المسألة الوطنية والقومية. بل إن استبعاد البناء الديموقراطي جاء وكأنه فائض عن الحاجة أمام أولوية المهمات الوطنية التحريرية والاستقلالية. في حين لم يكن ممكناً لتلك المهمات أن تنجح وأن تترسخ إلا إذا كانت مهمات يقوم بها الشعب بنفسه ولنفسه. ولقد أخفق عبد الناصر أو المشروع الناصري لأنه يقدّم مشروعاً للشعب لا بواسطة الشعب. فلم يكن ممكناً تدارك الأخطاء التجريبية، ولم يكن ممكناً استئناف المشروع الناصري بغياب القائد التاريخي. هذا العطب الأصلي الذي حكم مسيرة التحرر العربية أصبح مفتوحاً على احتمالات أكثر رحابة وأكثر عمقاً مع تصدي الجمهور بنفسه لمهمات التغيير والبناء. يبقى أن نتحفظ دائماً وأساساً على المنحى العقائدي المتجدد مع صعود الإسلاميين، لكن من دون إغفال أن هؤلاء هم مكوّن أساسي من حياة الشعوب العربية وهم فئة واسعة، ولكنها ليست وحيدة في معركة التغيير وليست قادرة على الانفراد بالسلطة بعد هذه الاختبارات والتجارب. وليس من باب إرضاء الذات والتقليل من العوائق والتحديات التي تواجه الشعوب العربية الاستهانة بهذه الظاهرة الطافية على سطح الحياة العربية، بل من باب المعاينة الملموسة لنمو الحركات السياسية الديموقراطية واتساع الثقافة الديموقراطية التي فرضت نفسها عنواناً من عناوين الحركات الإسلامية التي لم يسبق لها أن حملته.

ولن تكون مصر مثالاً فقط لتجريب الخيار الديموقراطي وتأصيله في العالم العربي بل هي أيضاً ستكون الدولة المؤثرة بداية كنموذج ومن ثم كموقع تأثير ودور في تحفيز عملية التغيير في دنيا العرب. مصر ليست أكثرية سكانية عربية لنفسها، بل هي المجتمع الأكثر تضامناً وانسجاماً وانفتاحاً والأكثر ثقافة مدنية، بحيث يستطيع أن يعيد أحجام الآخرين في المنطقة إلى حدودهم وأدوارهم المحدودة إزاء نهضة مصر واستعادتها الدور الريادي قبل أن نتحدث عن الدور القيادي. ومن نافل القول إن الجماعات الضيقة التي تصدّرت المشهد العربي عنوة بعد غياب الدور المصري ستجد نفسها في خيبة من هذا الصعود لدور مصر، دور الشعب لا دور الحكّام، دور الإمكانات البشرية لا الأرصدة المالية ولا الشعارات السياسية الزائفة التي استهلكت طاقات الشعوب العربية في معارك خاطئة وفي متاهات ونزاعات إقليمية وفئوية وجهوية لا فائدة منها.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى