“النهار” و”آل تويني”/ حازم صاغية
-1-
في الستينات والنصف الأوّل من السبعينات باتت قراءة «النهار» واجباً على اللبنانيّ الذي يقرأ، بل امتحاناً للبنانيّته. فهو إن لم يفعل، كان كمَن لا يحبّ أغاني فيروز أو أدب جبران خليل جبران. لكنْ لئن أمكن لحياة الأفراد اليوميّة أن تستغني عن ذاك الأدب وتلك الأغاني، فالاستغناء عن «النهار» كان يرسم لصاحبه وجه المغفَّل والمُفوَّت.
الجرائد التي شابهتها سياسيّاً، كـ»الجريدة» و»الصفاء»، كانت تذوي في عالمها الحِرَفيّ القديم. «الحياة» كانت عربيّة جدّاً. «الأنوار» ناصريّة جدّاً. «لسان الحال» تصدر ظهراً. «السفير» لم تكن قد وُلدت بعد.
لقد بدت هي الجريدة بألف ولام التعريف. قد يكرهها البعض لكنّه يقرأها، إمّا لاضطرار وظيفيّ أو للتظاهر بالإلمام أو ربّما لمتعة مازوشيّة.
«النهار» خرجت من حرب 1958 الأهليّة لتواكب، ولو بالمعارضة، المشروع الشهابيّ. ففي موازاة إنشاء الإدارة والمدارس وشبكات الكهرباء والطرق التي تقرّب المناطق واحدتها من الأخرى، غدت جزءاً من هذا المركز البيروتيّ الواحد، منه يطير ديكها الأزرق إلى الأطراف التي «فتحتها» الشهابيّة أمام الدولة. إنّها، إذاً، اللبننة التي اقتصرت قبلاً على جبل لبنان.
المهمّة كانت وطنيّة، بمعنى غير فولكلوريّ، وكانت جدّيّة، بل جليلة، بالنظر إلى العلاقات التي شدّت تاريخيّاً الأطراف تلك إلى سوريّة وفلسطين. وكان ما ضاعف الإلحاح على إنجازها أنّ مواجهة 1958 الأهليّة أضعفت الصلة ببيروت عند الطرابلسيّين والعكّاريّين والبقاعيّين ممّن لم يكن حنينهم إلى دمشق وحمص قد خبا أصلاً. هكذا بدت إعادة ربطهم بالمركز البيروتيّ شرطاً لجعل الوطن وطناً، و «النهار» كانت قطعة من الحبل الرابط.
والتجديد كان سمة العصر، عصرذاك: هكذا غرفت «النهار» من الجامعة اللبنانيّة الحديثة الولادة بعض كوادرها، واعتمدت مراسلين في المناطق النائية التي كان أبناؤها يعيشون أو يموتون بلا صدى، قبل أن تعتمد مندوبين في العالم العربيّ، ثمّ في كبريات عواصم العالم. ومع كلّ تقدّم في الستينات كانت «النهار» تتقدّم: أنشأت صفحة رأي كتب فيها الروائيّ اللاحق أمين معلوف والناشر اللاحق رياض نجيب الريّس وسمير عطا الله ووفيق رمضان وفؤاد مطر وابراهيم سلامة ورفيق معلوف وعبدالكريم أبو النصر والياس الديري وعلي هاشم وآخرون. وهؤلاء جمعوا بين كونهم كتّاباً معلّقين وكونهم محرّرين أو مراسلين في الخارج، فانكسر معهم ذاك الفاصل القديم والبائد بين الكاتب الذي يعمل بعقله والمهنيّ الذي يعمل بيده. ثمّ أنشأت صفحة ثقافيّة كاملة كانت، كصفحة الرأي، الأولى في الصحافة اللبنانيّة، عمل فيها الشاعر شوقي أبي شقرا والمسرحيّ عصام محفوظ والناقد نزيه خاطر وسواهم. وعبرها، ومن خلال سمير نصري، المصريّ المقيم في بيروت، تعرّفت أجيال من اللبنانيّين إلى السينما وأحبّتها. أمّا لوحة بيار صادق اليوميّة، الممتدّة على عرض صفحتها الأخيرة، فلم تكن أوّل الكاريكاتير في لبنان، ولا في مصر طبعاً، لكنّها جعلت الرسم للمرّة الأولى ينافس الحرف أو يفوقه أهميّةً وتداولاً. وحين كان يَجد حدثاً كبيراً، محلياً أو عربياً أو دولياً، كانت تخصّص له ملفاً، هو كرّاس منفصل عنها وإن حمل اسمها. وبين 1964، حين أُسّس ملحق أسبوعيّ شهير رأس تحريره الشاعر أنسي الحاج، أحد شبّان مجلّة «شعر»، و1967، حين انبثقت من الجريدة دار نشر تولاّها الشاعر يوسف الخال، أبرز وجوه «شعر» يومذاك، غدت «النهار» القابض الأبرز على الحياة الثقافيّة في لبنان. وهذا مجتمِعاً كان تقدّميّاً بقدر ما كان إمبراطوريّاً.
ويوميّاً على الصفحة الأولى كان ميشال أبو جودة ينشر عموده الذي تقول إحدى الروايات إنّ قراءته كانت من أوّل ما يفعله جمال عبدالناصر في الصباح. أمّا خليفته أنور السادات فذهب أبعد، إذ قرأ مقاطع من أحد أعمدة أبو جودة أمام مجلس الشعب فيما كان يستعدّ لزيارة القدس.
وأبو جودة بدأ نجمه يسطع لبنانيّاً بعد تعرّضه لضربة موسى تركت أثراً واضحاً على خدّه، وذلك لكتابته مقالاً عنونَه «في حمى الأمير»، تعليقاً على اغتيال النائب الشمعونيّ نعيم مغبغب، عام 1959، إبّان احتفال كمال جنبلاط برئيس الجمهوريّة الجديد «الأمير» فؤاد شهاب.
لكنّ أبو جودة وسّع الأفق النهاريّ فضمّ إليه اهتمامات عربيّة، صاغها بلغة بسيطة، موجزة ومكثّفة. فهو تنبّه مبكراً إلى أنّ بيروت مقصد عرب كثيرين هاربين من انقلاباتهم، حاملين إليها حرّيّاتهم التي يمارسونها بصوت مرتفع في مقاهيها، وحاملين رساميلهم التي أودعوها مصارفها، وأنّ في بيروت فلسطينيّين يحلمون بالعودة إلى فلسطين ويخطّطون، فوق الأرض وتحتها، لذلك. وهذا فضلاً عن الجامعة الأميركيّة بأساتذتها ذوي البلدان واللغات والسحنات الكثيرة. والبيئات المذكورة كنوز للخبر والرأي والمعلومة، لكنّها أيضاً طرق أخرى في النظر إلى المسائل، طرقٌ تُغني الطريقة الواحدة الموروثة والمألوفة لدى اللبنانيّين.
هكذا بدا لبنان، مع «النهار»، بلداً جدّيّاً، يصنع نفسه ولا يطيق التعيير بأنّه «صنيعة الاستعمار»، تتلاقى مناطقه في عاصمته كما تصبّ فيها البلدان المجاورة التي استولى عليها العسكر. فوق ذلك، وفيما الفئات الوسطى تتوسّع ويتوسّع معها البيع والشراء والاستيراد والاستهلاك، لاح البلد سوقاً شبه مكتفية بذاتها وبدورتها التجاريّة وعائدها الإعلانيّ.
حين بدأ كلّ شيء
الولادة الاسميّة تعود إلى 1933. حينذاك، في ظلّ الانتداب الفرنسيّ، كان الطلب كبيراً على الصحف والأحزاب والنقابات، تلك الأدوات التي علّمها الاستعمار لمُستَعْمريه فغدت أدواتهم في الاستقلال عنه. وكان الطلب كبيراً أيضاً على الطوائف، مِللنا ونِحلنا التي تحدّثت وترسلمت وصارت، بعد قدوم الاستعمار، مؤسّسات و «طوائف».
والمسيحيّون من الروم الأرثوذكس لم يتلكّأوا: ففي الثلاثينات والأربعينات عصف بهم حراك هاجسه الحدّ من وطأة الثنائيّة المارونيّة – السنّيّة، والمشاركة في تأثيث البيت اللبنانيّ الجديد: في 1932، أنشأ أنطون سعادة الحزب السوريّ القوميّ بعمود فقريّ أرثوذكسيّ وقاعدة أرثوذكسيّة غالبة. في 1933، كانت «النهار». في 1939، أسّس ناصيف مجدلاني «منظّمة الغساسنة» التي أحياها قريبه نسيم مجدلاني. في 1944، أطلق جورج خضر وألبير لحّام «حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة». شيوعيّو ستالين كانوا هناك أيضاً، في المزرعة ببيروت والمينا بطرابلس وفي الكورة شمالاً. أمّا التقاطع والازدواج فوُجدا كذلك: جبران تويني، مثلاً، انضمّ إلى «الغساسنة». جورج خضر انتسب إلى السوريّ القوميّ… الأيديولوجيّات القوميّة، العروبيّ منها والسوريّ واللبنانيّ، وكذلك اليمينيّ واليساريّ، لم تكن هي الموضوع إلاّ استطراداً. الموضوع، مُدرَكاً أم غير مُدرَك، كان الطائفة وتعزيز حضورها وزيادة حصّتها في الدولة والإدارة.
لكنّ ولادة «النهار» الفعليّة حصلت مع حصول لبنان وتبلوره شهابيّاً. والحال أنّ البلد، كما صيغ بعد 1958، كانت تلك الجريدة مرآته الأدقّ، وهي ظلّت لعقود هكذا: مدوَّنة صعوده، قبل أن تنقلب ورقة نعيه.
المؤثّرات الثلاثة
غسّان تويني، نجل المؤسّس جبران والعائد خرّيجاً من هارفرد، كان رمز المشروع وبطله. حبّه للتجديد وللمغامرة وديناميّته ويقظته الحادّة على الحدث والطارىء كانت تدفعه في الاتّجاه هذا.
بيد أنّ العوامل التي تكبح مشروعه وتمتصّ مضمونه، أو تخفّفه، كانت لا تقلّ قوّةً.
ذاك أنّ تويني لم يُخفِ عزمه المبكر على الانضمام إلى نادي السياسيّين التقليديّين. كان يرى أنّ النجوميّة الإعلاميّة لا تكتمل بغير النجوميّة السياسيّة، وكان يتوهّم، بقدر بادٍ من الاعتداد الذي يصنعه الوهم، أنّ في وسعه تحديث سياسة التقليديّين بصيرورته هو نفسه تقليديّاً. أمّا تجاربه في الحكم، وفي السعي إليه، فحوّلته إلى التقليديّ الذي أراد أن يكونه من دون أن تُنتج تحديثاً يُذكر.
في 1951 صار نائباً، وكذلك في 1953، وفي 1957 غدا نائباً لرئيس المجلس. وهو وُزّر في 1970 ثمّ وُزّر في 1975، وبين التاريخين خاض انتخابات 1972 عن عاليه. وأخيراً، وبعد طول انقطاع، عاد، عام 2006، إلى البرلمان ليحتلّ المقعد الذي شغر باغتيال نجله جبران. وإلى النيابة، عمل في 1967 سفيراً في الولايات المتّحدة، ثمّ، بين 1977 و1982، مندوباً في الأمم المتّحدة.
هوس السياسيّ قاده إلى دماثة مبالغ فيها حيال «الأقطاب» السياسيّين، لا سيّما الموارنة منهم، الذين يصدر عنهم رئيس الجمهوريّة، ثمّ السنّة الذين يأتي من صفوفهم رئيس الحكومة. فمعارضة من عارضهم، كبشارة الخوري أو فؤاد شهاب أو رشيد كرامي أو سليمان فرنجيّة، تستدعي بالضرورة الاتّكاء على كميل شمعون أو ريمون إدّه أو صائب سلام، ومعهم لاحقاً موسى الصدر. هؤلاء وحدهم حجارة البيت، من دونهم ينهار على رؤوسنا جميعاً.
والسلوك هذا عبّر عن الطور الجديد للحساسيّة الأقلّيّة والأرثوذكسيّة، طورِ ما بعد الاستقلال والاستقرار النسبيّ في علاقات الطوائف وترسيم حصصها، وتالياً الإقرار بهذا الترسيم. فالرجل الأوّل مارونيّ حكماً، والثاني سنّيّ، والآخرون سادس وسابع… أمّا الأرثوذكسيّ البارع والعارف فمن ينجح في تسليك أرثوذكسيّته وحساسيّتها وسط تلك الأدغال، بحيث يغدو ضرورةً قصوى للمارونيّ الأوّل أو للسنّيّ الثاني.
وتويني لم يُنكر مرّةً الحساسيّة هذه. فهو حين تحدّث عن الثلاثة الأشدّ تأثيراً فيه، ذكر والده جبران وأنطون سعادة وشارل مالك ممّن لا يجمع بينهم إلاّ مذهبهم الأرثوذكسيّ. كامل مروّة (غير الأرثوذكسيّ)، الذي كان يكبره بـ11 عاماً، لم يُذكر في هذا السياق، مع أنّ تأثيره عليه كان حاسماً.
الاشتغال في العمل النيابيّ، الطائفيّ تعريفاً، لم يفعل سوى توطيد هذا الارتباط. هكذا كان لا بدّ من صلات وثيقة ب ـ»سيّدنا المطران» وبـ «مفاتيح» الطائفة التي أهداها تويني أسهماً في «النهار»، وإن احتفظ لنفسه وعائلته بقرار هذه الأسهم والتصويت عنها.
وفضلاً عن مصاهرة لاحقة بين «عائلتين سياسيّتين أرثوذكسيتيّن»، مثّلها زواج نجل غسّان تويني وكريمة ميشال المرّ، احتلّ تويني مواقع أساسيّة في مؤسّسات «النظام» الطائفيّ الموازي. ففي 1988 ترأّس لجنة متحف سرسق، كما ترأّس، بين 1990 و1993، جامعة البلمند. وظلّت الافتتاحيّة الأسبوعيّة لمطران جبل لبنان الأرثوذكسيّ، جورج خضر، من معالم الجريدة وثوابتها.
وإذ استوطنت الطائفيّةُ الهواءَ اللبنانيّ، فوُجد مسيحيّون يأخذون على أبناء طوائفهم العروبيّين أنّهم صاروا «مثل المسلمين»، وُجد مسلمون يرون في «النهار» مصنعاً قد يدخله القلائل من أبناء طوائفهم لكنّهم يخرجون منه مسيحيّين. أمّا الأوصاف هذه فكانت تستهدف السلوك والمظهر الخارجيّ ومدى استدخال الكلمات الأجنبيّة في الكلام، فضلاً عن القناعات السياسيّة طبعاً.
لكنّ الحدثين الصارخين في هذا السجلّ، وهما يتجاوزان التكهّن، فشهد عليهما العام 1972: فقد انضمّ تويني إلى قادة الطائفة ورموزها في اعتراضهم على انتخاب نجاح واكيم نائباً عن أرثوذكس الدائرة الثالثة في بيروت. ذاك أنّ واكيم ناصريّ آتٍ من خارج النادي المغلق الذي ينبغي أن يبقى مغلقاً وحصريّاً للأرثوذكس الأقحاح! لكنّ تويني خاض عامذاك معركة عاليه في لائحة واجهت لائحة القطبين الدرزيّين كمال جنبلاط ومجيد إرسلان، معبودَي طائفتهما. شبّان حملته وشابّاتها لبسوا قمصاناً مصنوعة خصّيصاً للمناسبة، كما وزّعوا أغنية عن «ترشّح غسّان/ عمحافظتك يا لبنان». وهذه كانت تقنيّات في الحملات الانتخابيّة غير مألوفة يومذاك، فبدوا بسببها «حديثين» و «عصريّين»، كما يحبّهم تويني، يهاجمون «الإقطاع» و «التقليديّين». لكنّ المعركة أحدثت استقطاباً مسيحيّاً – درزيّاً بالغ الحدّة، رآه البعض لاحقاً مصدراً بعيداً من مصادر حرب الجبل في الثمانينات: أكثريّة الدروز الساحقة اعتبرت أنّ اللائحة التي ضمّت صاحب «النهار» مسيحيّةٌ لا تمثّل الدروز. أمّا السؤال الذي لم يُسأل فكان التالي: لماذا ينبغي أن يحظى أرثوذكس بيروت بتمثيل يختارونه هم، وأن يُكتب لدروز عاليه تمثيل يختاره سواهم؟
وكان من المستحيل، ومن غير المرغوب فيه أصلاً، ألاّ ينعكس على «النهار» هذا القران بين الأرثوذكسيّة العميقة والضعف حيال الزعامة السياسيّة، بشروطها المتدنّية المعروفة في لبنان. المظهر الأبرز لذاك القران كان المحافظة الشديدة. ذاك أنّ «السياسة»، كما درّجتها «النهار»، هي، بالضبط، السياسة اللبنانيّة المعمول بها. إنّها المعيار الذي تُقاس عليه المعايير، والممارسة التي لا ممارسة سياسيّة غيرها. حتّى ألقاب الزعماء، الرسميّة منها (فخامة، معالي…) والأهليّة (بيك، أفندي، شيخ إلخ…)، والمبالغة في احترام المراتب وتوزيع الشهادات الميّتة عن «الكبار» و»القامات» و»العمالقة»، هي ممّا طبّقته مقالات «النهار» تطبيق طالب لكتاب تعاليم. صحيح أنّ الطائفيّة ظلّت «داءً» يُندّد به، ويُدعى إلى تجاوزه، في المقالات وفي محاضرات «الندوة اللبنانيّة» التي شارك فيها تويني، إلاّ أنّ رموز الطوائف، الزمنيّين والروحيّين، أحيطوا بالاحترام والتنزيه. إذاً كان الشعار الضمنيّ: كلّ اللعنة على الطائفيّة وكلّ الاحترام للطائفيّين.
أمّا «الفضائح» التي كانت تكشفها الجريدة، في بلد يُعَدّ سياسيّوه البطن الأخصب لفضائحه، فلم يكن يرتكبها أحد. لقد ظلّ القدر أنشط مَن يرتكب الفضيحة، لا تنافسه في ذلك إلاّ الصدفة…
وفي هذا التسليم بمنطق السياسة اللبنانيّة، والعجز عن تطعيمها بمعانٍ أرقى، أو اتّساعها لفئات ونُخب جديدة، مارست «النهار» تسحيراً للسياسة لا ينزّهها عن العقل التآمريّ المتفشّي في عموم المنطقة. ففضلاً عن «المصادر العليمة» و «الأسرار» و «أسرار الآلهة»، هناك الوليمة التي يولمها سياسيّ لسياسيّ فتصير حدثاً وخبراً، وهناك «الصالونان» النهاريّان لتويني وأبو جودة، حيث يخضع الشأن العامّ لتداول السياسيّين الكبار، و»تُطبخ» بعض السياسات والمواقف بعيداً من «العامّة».
وهذا ما بدأ يعرّض اللبنانيّة النهاريّة، المقدودة بالتمام على قدّ لبنان الصيغة والميثاق، لاهتزازٍ ما لبثت السنوات التالية أن فاقمته. فالحرب حين وقعت كانت، وفقاً لتسمية غسّان تويني، «حرب الآخرين على أرضنا». ذاك أنّ بلد الصيغة والميثاق منسجم انسجام الجنّة، قد يستهلك التناقض إلاّ أنّه لا ينتجه، وقد يستورده من الخارج لكنّه لا يصدّر لهذا الخارج إلاّ «ما يُدهش العالم».
لبنان البسيط والمبسّط هذا، والذي شرع يتداعى في الرواية الرحبانيّة عن القرية، هو نفسه ما راح يتداعى في «النهار». بدأ ذلك مع انطلاق القذيفة الأولى في 1975.
أثر التركة القوميّة
لكنّ «النهار» ليست هذا فحسب. ففي شبابه انتمى غسّان تويني إلى الحزب السوريّ القوميّ، وتبادل بضع رسائل مع أنطون سعادة قبل أن يطرده الأخير الذي لم يحتمل أدنى «انحراف» عن جادة صوابه. وتردّد، بعد ذاك، أنّه عاد إلى الحزب ليطرده ثانية جورج عبدالمسيح، تلميذ «الزعيم» ومقلّده.
كائناً ما كان الحال، احتفظ تويني «الليبراليّ» بإعجاب منقطع النظير بـ «الزعيم»، وبقي بعض القوميّين السوريّين أقرب أصدقائه إليه. فوق هذا، ظلّ في لحظاته الحميمة أسير تثبّتٍ لا يملّ على أخبار ووقائع أصابها الصدأ عن عبد المسيح وسعيد تقيّ الدين وغسّان جديد…
هذه العلاقة عرفت ذروتها خلال 1957 – 1962، أي ما بين التحالف القوميّ السوريّ – الشمعونيّ، الذي أدرج الطرف الأوّل في متن «الانعزاليّة المسيحيّة»، وسحق فؤاد شهاب محاولةً انقلابيّة مسرحيّة نفّذها القوميّون. أمّا الجامع يومذاك فكان العداء للطغيان الناصريّ الذي يقترب من سوريّة ويُرعب، في من يُرعب، مسيحيّي لبنان.
القوميّون الذين اغتالوا الضابط عدنان المالكي في دمشق تعرّضوا لعمليّة استئصال لا رحمة فيها، ألجأت بعض رفقائهم إلى بيروت الشمعونيّة. وحين اندلعت مجابهة 1958 وجدوا أنفسهم، إلى جانب الكتائب، يقاتلون في الخندق نفسه.
في هذا السياق، بدا التوكيد القوميّ على العلمانيّة ملائماً لـ «النهار». فهو يميّزها عن الطائفيّة الصريحة للأحزاب الطائفيّة المسيحيّة، أي المارونيّة، لا سيّما الكتائب التي ظلّت طويلاً تستنفر في تويني أرثوذكسيّته وما استبقاه من قوميّته السوريّة. لكنّ هذه العلمانيّة تُبقي «النهار» في معسكر مسيحيّ عريض يناهض عبدالناصر الذي لاح حفيداً للسلطان سليم الأوّل، آتياً هذه المرّة، لا من الشمال الشرقيّ بل من الجنوب الغربيّ. أبعد من ذلك، أنّ الحزب القوميّ، «العلمانيّ»، أنشط الأدوات التنظيميّة لطائفة الروم الأرثوذكس، والأشدّ استقبالاً لشبّانهم وناشطيهم الباحثين عن مكان لهم على هامش الثنائيّة المارونيّة – السنّيّة. يومذاك درج القول الساخر: العلمانيّة اسم حركيّ للأرثوذكسيّة. علمانيّة «النهار» كانت مثلاً حياً على ذلك.
ومبكراً ظهرت آثار هذا التقاطع في الحيّز الثقافيّ، لا السياسيّ فحسب. ففي 1957 تشكّلت في بيروت مجموعة «شعر» التي كان أشدَّها ديناميّةً مثقّفون سوريّون ولبنانيّون، مسيحيّون وعلويّون، قوميّون سوريّون ونهاريّون. هؤلاء عارضوا القَدامة الشعريّة بقدر معارضتهم الدعوات العروبيّة والوحدويّة التي تهبّ من دمشق والقاهرة وتجد حاضنها البيروتيّ في مجلّة «الآداب».
لكنّ محنة القوميّين في لبنان، عام 1962، والتي أفقدت الطائفة الأرثوذكسيّة حزبها الأوّل، ربّما شكّلت بدايات ما بات يُعرف لاحقاً بـ «الطائفة المسيحيّة» العابرة للمذاهب. فالمسيحيّون غير الموارنة بدأوا يلتحقون التحاقاً مباشراً بالأحزاب والزعامات المارونيّة، وهي وجهة عزّزتها حرب السنتين في السبعينات قبل أن تكرّسها حرب الجبل في الثمانينات. وبدورها، صارت «النهار» الصوت الأبرز لمعارضة يقودها كميل شمعون، الزعيم المحبّذ دائماً عند تويني، وريمون إدّه، المحبّب دائماً لديه. تلك المعارضة وجدت تتويجها في انتخابات 1968، حين نجح المذكوران في جذب بيار الجميّل إليهما وتشكيل «الحلف الثلاثيّ» الذي أطاح بالشهابيّة.
أمّا القوميّون الذين كانوا لا يزالون في السجون، فتولّت «النهار» نشر مقالاتهم ذات الطابع الخطابيّ، والتي حملت أسماء مستعارة كسبع بولس حميدان لأسد الأشقر، وقيس الجردي لإنعام رعد، وعبد الله فرح لعبد الله سعادة. بهذا دفعت آخر ديونها لأنطون سعادة وتابعيه الذين باتوا مُحرِجين لها. فهؤلاء الذين دخلوا السجن «يمينيّين» وحلفاء للهاشميّين، ما لبثوا، بعد تسوية عقدوها مع الأجهزة الشهابيّة، أن خرجوا منه «يساريّين». وحين تراخت قبضة الدولة الشهابيّة بعد حين، احتلّ عندهم ياسر عرفات وحافظ الأسد الموقع الذي كان يحتلّه كميل شمعون والملك حسين. أمّا «النهار» التي اعتصمت بلبنانيّتها الصارمة، وكانت الأرثوذكسيّة بدأت تندمج في مسيحيّة عريضة، فانقطع بينها وبينهم حبل السرّة. مع هذا، ظلّت صفحات الجريدة تستقبل أسماء قوميّة، وتتّسع لمحرّرين قوميّين، بنسبة تفوق كثيراً نسبة باقي الأحزاب فيها، وبقي غسّان تويني يؤكّد أنّ الفرق بين الحزب القوميّ في زمن أنطون سعادة وبينه اليوم كالفرق «بين الأرض والسماء».
وطنيّة… إنّما رجعيّة
الأرثوذكسيّة العميقة وهوس السياسة الانتخابيّة وتأثير القوميّة السوريّة أنشأت تكويناً غريباً وبالغ التفاوت. فهي جعلت وظائف «النهار» مزدوجة بقدر ما جعلت وطنيّتها اللبنانيّة المؤكّدة ذات نصل مثلوم.
في سياستها الوطنيّة العامّة، مثّلت «النهار» دائماً حصناً من الحصون القليلة، والمتضائلة، التي تدافع عن لبنان. فهي لم تهرق ماء وجهها، لا أمام «بندقيّة المقاومة» في الستينات والسبعينات، ولا أمام «بطل تشرين» في السبعينات والثمانينات والعقود التي تلت. صحيح أنّها، في مواجهة غابة السلاح وضمور القانون، اعتمدت التقيّة أحياناً كثيرة، وغالباً ما عوّلت على الفولكلور والنوستالجيا اللبنانيّين فبدت كمن يطلب الحماية من الجثث. لكنّ خطف ميشال أبو جودة إلى سوريّة في 1973، وهو أبرز معلّقيها وأحد رئيسَي تحريرها، والذي نمّ مبكراً عن خوف النظام السوريّ من الحرّيّات الإعلاميّة في جواره، كان اعترافاً بأنّها المنبر الأكثر تجسيداً لتلك الحرّيّات وللوطنيّة التي تنهض عليها.
بيد أنّ الوطنيّة تلك، وعملاً بتقديس «النهار» للسياسة اللبنانيّة المعمول بها وبأمْثلَتها، ظلّت ذات مضمون رجعيّ. فهي ديموقراطيّة في مواجهة التجاوز الشهابيّ على الديموقراطيّة المدعوم بالتوسّعيّة الناصريّة، لكنّها حليفة قوى غير ديموقراطيّة تعارض الميل الشهابيّ إلى بناء دولة واحدة. وهي علمانيّة، شريطة أن لا تتّجه شفرة علمانيّتها صوب رجال الدين، لا سيّما الأرثوذكس منهم. وحينما انفجرت الحرب اليوغوسلافيّة في التسعينات، شكّلت «النهار» جبهة فرعيّة للصرب الأرثوذكس، ودانت أميركا التي تدعم المسلمين، مستعيدةً العدّة إيّاها عن مسيحيّي الشرق والمطامح الإمبرياليّة لليانكي. و»النهار» ليبراليّة، إلاّ أنّها في هذا، كما في حالة ريمون إدّه، أغراها الدفاع عن حكم الإعدام وعن السرّيّة المصرفيّة، ونطق بلسانها الاقتصاديّ مروان اسكندر، أبرز الاقتصاديّين النيو-ليبراليّين في لبنان. حتّى الوطنيّة اللبنانيّة نفسها كانت عندها من طينة قوميّة لا تتورّع عن معاملة اللبنانيّة كمرتبة أكثر منها جنسيّةً، ولا تخفي روابطها الوثيقة مع «الإمبراطوريّة» اللبنانيّة في المَهاجر ومع «النوابغ» الذين لا يكفّون عن التوالد هناك. وربّما كان ذا دلالة رمزيّة بعيدة على هذا الهوى القوميّ في الوطنيّة اللبنانيّة أنّ لويس الحاج، الذي علّم غسّان تويني الكتابة، وكان الحِرَفيّ الرفيع الذي درّب أجيالاً من النهاريّين، كان مترجم «كفاحي» إلى العربيّة. حينذاك، في 1963، كان حزب البعث يصل، للمرّة الأولى، إلى السلطة في بغداد. هكذا فتحت سوق العراق الضخمة ذراعيها لكتاب هتلر الذي أعطى كتب ميشيل عفلق بعض الأنياب التي تفتقر إليها.
-2-
لم تقتصر اللبنانية النهارية على المواقف. الحياة الداخلية للجريدة صُنعت أيضاً على مثالها. ففي مقابل الفرد الذي تحمله الكفاءة إلى حيث هو، هناك ثلاثة تجيء بهم الزبائنية العائلية أو الطائفية.
وليس من غير معنى نشوء ما يسمّيه بعض النهاريين «قبائل النهار». فإلى غسان، تولى إخوته، سامي وفؤاد ووليد، الإدارة المالية وشركة التوزيع والمطابع، ثم تولى أبناؤهم هذه المسؤوليات. وإلى لويس الحاج، عمل في الجريدة نجلاه أنسي وعدلي، كما عمل جهاد أبو جودة، شقيق ميشال. وبعدما تولى لويس الحاج وميشال أبو جودة رئاسة التحرير، عُهد بها، في 1992، إلى أنسي لويس الحاج، قبل أن تنتقل، في 2000، إلى جبران غسان تويني، ومن بعده ابنته نايلة. أما الوزير الحالي مروان حمادة، شقيق زوجة غسان، الشاعرة ناديا تويني، فهو رئيس مجلس إدارة «النهار» ثم عضوٌ فيه.
ولأن غسان يريد نفسه وجهاً سياسياً، فهذا ما أسس أعرافاً في الجريدة: فهو حين يخوض انتخابات، كما في 1972، تُعبّأ «النهار» والعاملون فيها لحملته. وهو حين يُجري مقابلة مع سياسي، تُنشر صورته مع مُحاوره، ما يُحرم منه أي صحافي آخر في الجريدة يقابل سياسياً.
وفي «النهار» استعرضت المراتبية والطقوس السلكية نفسها بتوسع. هكذا، تبدّى مراسلو المناطق الأبعد شغيلة عند خواجات أبناء المدينة. وكان لـ «سيدات المجتمع»، أي بنات السياسيين وزوجاتهم، موقع محفوظ تصدرته الافتتاحيات الغاضبة لعلياء رياض الصلح.
ودائماً مثل الملبس والمظهر الخارجي عنصر تعيين حاد للمكانة. فربطات العنق، مثلاً، تُشاهَد في «النهار» كما تُشاهد في البنوك والشركات، لا في الصحف. أما البيئة الجغرافية الحاضنة الملابس والعلاقات فلا تتكتم على هوية طبقية صارخة: ذاك أن «النهار» لا تقيم إلا في الشوارع والمناطق ذات الأمتار المربعة الأعلى سعراً، كالحمرا والوسط التجاري، فيما يقيم تحتها مطعم، قد يكون البرمكي أو الدي تي، من أغلى مطاعم بيروت. والحال أن المطعم والفندق، فضلاً عن الملبس، يحتلان موقعاً معتبراً في «التقاليد» النهارية، مع ما يرتبه ذلك من إنفاق، عُرف به غسان ونجله جبران، يشبه بذخ رجال الأعمال أو ملاكي الأراضي أكثر مما يشبه إنفاق الصحافيين.
ولئن اتسعت «النهار» لصحافيات كثيرات، عملن محققات ومخبرات ومعلّقات في الصفحة الثقافية أو صفحة الرأي، فإن أياً منهن لم تحتل موقعاً قيادياً أو تقريرياً في الجريدة التي شاركت سائر زميلاتها في طغيان الطابع الذكوري. أما نايلة تويني وأختها ميشيل فتندرجان في خانة أخرى وتخضعان لحساب آخر.
إلى ذلك، ظل الشكل سيد «النهار». فهي اعتنت بالمهنة، بمعناها التقني، على نحو غير مسبوق أو ملحوق في الصحافة اللبنانية، بل العربية. وقد عرفت «معلمين» للصنعة وشيوخ حرفة يدربون ويمهنون الشبان والشابات، كان أبرزهم فرنسوا عقل، سليل عائلة الصحافيين التي امتلكت مبكراً صحيفة «البيرق»، وإميل داغر، فضلاً عن لويس الحاج. بيد أن كثيراً من الجهد صُرف على رقابة لغوية ميتة دفعت شوقي أبي شقرا، حين تسلم مسؤولية الصفحة الثقافية، إلى «تصحيح» نص للجاحظ فاتَهُ أن كاتبه كبير العباسيين.
وهذا الولع بالشكلي، كامتداد تعبيري لشكلية التصور النهاري، مرفقاً بالأمانة للمهنة، إنما لبى همين نهاريين: فهو أعلن الانتساب إلى تقليد في الكتابة مصدره «النهضة» اللبنانية والمسيحية في جبل لبنان، كما فرز الكتابة عما روجه طغيان الصحافة المصرية في الصياغات والخبر. وهذان، تعريفاً، همان أيديولوجيان، غير أنهما يجعلان اللغة، وهي رحبة دائماً، سجناً تحرسه قواعد مقدسة وعين بوليسية.
ومدرسة «النهار» تبقى أكثر تأدباً مما يستدعيه النقد. فهي، مثلاً، وعملاً بأبرشية قروية «قصيرة اللسان»، درجت عدم انتقاد صحيفة لصحيفة زميلة، ووسعت نطاق «الشخصي» الذي لا يجوز تناوله، فشمل ثروات وتصرفات مصدرها عام وسياسي يتعدى «الشخصي». أما المقدس فينبغي احترامه دائماً، واستعارة مصطلحات المدارس الدينية في وصفه وعرضه.
بيد أن الشكل يذهب أبعد: فالمقالات الذكية والرشيقة لميشال أبو جودة لم يحالفها تعقيد الواقع دائماً، وكان يتبدى أحياناً أن عبارتها القصيرة تبسط المعقد وتقصره. وعموماً، درجت كتابات كثيرة في «النهار»، بسبب جاذبية لبنان وريفه عليها، على محاكمة العالم مدفوعة بتلك الجاذبية التي تريفه. هكذا، مثلاً، تنشطر «مواقف واشنطن» «رِجلاً في البور ورِجلاً في الفلاحة»، أو توصف سياسات دولية متقلبة بـ «الهبة الساخنة والهبة الباردة». وإذ تناولت ملفات «النهار» القضايا الدولية للستينات، فقد جاء معظمها، خصوصاً ما يتناول الحركات اليسارية وتفاصيلها، أقرب إلى المشاهدة البرّانية التي لا تربطها إلفة بما تتناول. ولئن تميز كاريكاتور بيار صادق بنظافة الصورة وما يقارب المطابقة الفوتوغرافية بينها وبين صاحبها، فقد اكتفت الميزة المتقادمة هذه بعالم السياسيين اللبنانيين وما يدور فيه، حائلة دون الانتباه إلى قوى ومشاكل أخرى. ومن خلال الطربوش أو اللبادة أو المشاية أو اللهجة المناطقية – الطائفية، نُمّط السياسيون ونُمّطت طوائفهم ومناطقهم على نحو لا يتغير.
أمّا الجهد اللامع الذي بذله سمير نصري لتعليمنا السينما، فغلب فيه التعريف غلبة شبه مطلقة على التحليل. لقد كتب سمير نصوصاً جميلة وحيّة على هوامش الأفلام، إلا أنه نادراً ما غاص في الأفلام ذاتها، وأندر من ذلك إدراجها في سياقات اجتماعية أو بسيكولوجية أعرض.
ولم تبرأ صفحة الثقافة النهارية من آثار اللبنانية المعهودة. هكذا استوطنتها المناسبات الاجتماعية ولياقاتها حيال سيدات الصالون وأبناء الذوات ورجال الدين حين يكتبون أو يصدرون كتباً. والشيء ذاته يصح في المناسبات والمهرجانات السياحية، أو الأدب الحِرَفي والزجلي الذي لا تزال تنتجه القرية في «متصرفية» جبل لبنان. وكثيراً ما نابت الأوصاف البسيطة والمعاني الإيجابية التي يُظن أنها ذات حمولة إبداعية (حلو، مشرقط، لمعة…) عن تعقيد الموصوف. أما البطل المضاد، مثله مثل البشع والمقرف والكسول والمريض والمجنون، فكادت الثقافة النهارية تنفيهم من فردوسها.
وربما كان «الملحق»، الذي توقف إصداره منتصف السبعينات، درة تاج «النهار» المثقفة. فهو اتسع لأصوات شابة ووفر لوافدين جدد منبراً لم يتوافر قبلاً. لكن مقالات رئيس تحريره أنسي الحاج التي عُرفت بعنوانها الجامع «كلمات»، وكانت أكثر ما يذكر بـ «الملحق» ويتماهى معه، زودت «النهار» صوتاً اعتراضياً مرتفعاً كان يعوزها في الستينات، عقد التمرد الأوروبي والشبابي، والثورة الفلسطينية عندنا. لكن الغضب الفائض الذي عبرت عنه تلك المقالات، والذي استعير بعض مصطلحاته من القاموس القلق والمتوتر لأفكار أوروبا ما بين الحربين، لم يُفهم له سبب أو علة. أما «الثورة» المنشودة التي أريد لها أن تنشب فلم يُعرف الغرض منها، ولا أشيرَ، ولو تلميحاً، إلى طبيعتها وتمثيلها. وإلى ذلك، دافعت «كلمات» عن مواقف رجعية كان أبرزها الموقف من «استرجال» النساء ودخولهن سوق العمل مما طرحه التطور الاجتماعي اللبناني يومذاك. لقد رد أنسي الحاج على تلك المسائل برومنسية الحبيب المعذب، وحين شاء أن يدلنا على المرأة التي يعتبرها نموذجاً للنساء، عثر على صونيا فرنجية، كريمة الرئيس سليمان فرنجية وزوجة النائب عبدالله الراسي.
إحباط بـ «الاعتدال»
لم تكن وراثة جبران تويني التدريجية لأبيه مجرد حدث بيولوجي. الأمر انطوى على امتداد بقدر ما انطوى على انقلاب يُستحسن البحث في التاريخ السياسي عن أسبابه.
الشاب، المولود في 1957، المتأثر ببشير الجميل، ثم بميشال عون، لم يعرف السنوات البرلمانية التي عرفها أبوه، ولم يعرف السياسة بالتالي.
غسان، مثلاً، كره بشير الجميل وكره ميشال عون، وغضب على نجله لميله إليهما، ما أضاف إلى علاقتهما الشخصية المأزومة بُعداً آخر. وهو كان يعتدل ويُحجم حين تقترب الحرب الأهلية: هكذا، وعلى رغم ولائه العميق لشمعون، شارك يوسف سالم وشارل حلو وبهيج تقي الدين وآخرين تأسيسهم «القوة الثالثة» في 1958. وفي حرب السنتين، رفض نقل جريدته إلى بيروت الشرقية، معتبراً أن انتقالها، كانتقال الجامعة الأميركية، معناه التقسيم.
جبران، في المقابل، كان يُقدم: هكذا أحل المسيحية النضالية محل مسيحية أبيه الميثاقية، وفي هذا شيء من سيرة بشير الجميل نفسه المكمل لأبيه بيار والمنقلب عليه في آن. وفي وقت لاحق أقام جبران مكتبه في الشرقية.
لكن النجل صدر أيضاً عن الإحباط المزدوج للوالد بزعامتين مسلمتين «معتدلتين» حالت الحرب دون «اعتدالهما»، كما حالت دون كل «اعتدال» آخر.
أولاهما كانت زعامة صائب سلام الذي جمعته بغسان تويني بيروتية ذات ذاكرة ومراجع مشتركة، وولع بالاستشهاد بمقالات نُشرت في «نيويورك تايمز» أو مجلة «تايم». وسلام حين نفض عنه ثياب «ثورة 58»، تحول، بعد مودة عابرة لفؤاد شهاب وحكومة واحدة في ظله، إلى معارض شرس له ومعارض مداوِر للناصرية. لقد صار السنّي «الناعم» الذي يواجه في بيروت «فتوات» الأحياء المدعومين من السفارة المصرية و «المكتب الثاني» الشهابي. وعلى مدى الستينات، بقي معارضاً للشهابية إلى أن تمكن من إسقاطها، بمعونة «الحلف الثلاثي» التي تكتّم عليها الطرفان.
في عهد سليمان فرنجية، شكل صائب سلام «حكومة الشباب» التي ضمت صاحب «النهار»، لكن اغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة في فردان، في نيسان (أبريل) 1973، فجر النزاع بين الرئيسين. كل منهما اعتصم بطائفته وصار فجأة من متطرفيها. «النهار» لم تستطع أن تندرج في المعارضة السلامية المحكومة باعتبارات لا تستسيغها، خصوصاً أن حرباً مصغرة بين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية ما لبثت أن نشبت في أيار (مايو). و «النهار» عانت ما عانته من فرنجية الذي اعتُقل تويني في عهده، لكن هذا شيء والمعارضة السلامية – الإسلامية – الفلسطينية يومذاك شيء آخر.
بعد الاجتياح الإسرائيلي في 1982، تعاون سلام وتويني لدعم الشرعية الممثلة آنذاك بأمين الجميل. لكن كل شيء ما لبث أن انهار. بيروت صارت في قبضة «أمل» و «الاشتراكي». الجيش والأمن السوريان عادا إليها. صائب سلام، المسن والمحبط، غادر إلى جنيف، وفي 2000 رحل عن دنيانا.
الثانية زعامة موسى الصدر. فالإمام الآتي من إيران، وعلى عكس الروايات اللاحقة، بدا في لبنان وزناً يضاف إلى الوزن المسيحي في مقابل الوزن السنّي. «المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى» الذي ناضل لإنشائه كان حسماً من حصة دار الفتوى ومن نفوذها. وفي السياسات الإقليمية، بدا الصدر أقرب إلى التوجهات غير الراديكالية التي لم تهضم الناصرية، ولا هضمت بعدها الثورة الفلسطينية. قوته، منذ البدايات الأولى، كانت توحي بمركز قوة يناظر المركز الفلسطيني الناشئ ويناهضه. سلوكه الشخصي المنفتح استهوى المسيحيين، واستهوى «النهار». «الندوة اللبنانية» لميشال أسمر، معمل النخبة الميثاقية ومرآتها، أعطته منبرها. «النهار» أعطته صفحاتها. الأصدقاء المشتركون كانوا كثيرين، أبرزهم حسين الحسيني.
لكن المسلم المرغوب الذي كانه الصدر لم يعمّر طويلاً بصفته هذه. فالتزمت الذي واجهه به عهد فرنجية دفعه إلى راديكالية متزايدة. أما «فتح» والنظام السوري اللذان لا يبخلان بالتسليح والتدريب، فكانا ينتظران إشارة منه كي يسلحاه ويدربا شبانه. وقبل أن تنتهي السبعينات، وفيما الإمام يتخبط بتناقضاته، خُطف في ليبيا.
بشير الجميل كان يصعد آنذاك. لأسباب كثيرة، منها العاطفة والحساسية والتجربة والسن، كان يستحيل على غسان أن يلتحق بالشاب بشير الجميل. كان هذا سهلاً على نجله جبران، ابن العشرين.
في هذه الغضون، جاءت الحروب، ابتداء بحرب السنتين، قاسية على «النهار»، مثلها في ذلك مثل لبنان كله.
ففضلاً عن صعوبات الصدور لأسباب أمنية وعن تقلص عدد الصفحات وإغلاق «الملحق»، بدأت الجريدة تنزف كوادر أساسية آثرت الهجرة واحتلت مواقع بارزة في صحف البلدان التي هاجرت إليها. الموجة الأولى في السبعينات ضمت رياض الريس وسمير عطاالله ورفيق معلوف وعبدالكريم أبو النصر وفؤاد مطر وسواهم، والموجة الثانية في الثمانينات شملت جورج سمعان وغسان شربل وعبدالوهاب بدرخان وخيرالله خيرالله وبشارة شربل وآخرين. بهؤلاء شابهت «النهار» أيضاً لبنان بوصفه، حتى في أزمنة المحن، بلداً وسيطاً ومصدراً للكفاءات.
الجيش السوري احتل مكاتبها في الحمرا، وطرد المحررين والموظفين منها. الوضع الأمني والسياسي صار يضغط على الصحف عموماً و «النهار» خصوصاً. في 1977، أنشئت في باريس، كاحتياط وكاستدراك، مجلة «النهار العربي والدولي»، وكانت سبقتها إلى لندن «الحوادث» لسليم اللوزي، كما ظهرت في فرنسا «المستقبل» لنبيل خوري. آنذاك، في النصف الثاني من السبعينات، وفيما أسعار النفط تشهد صعودها الصاروخي، هاجر المال العربي إلى أوروبا. الإعلام اللبناني كان لا بد أن يهاجر.
الياس الديري ومروان حمادة أسسا «العربي والدولي» ثم تولاها جبران الذي كان يدرس الحقوق في باريس. المجلة لم تكن فاشلة، وهي اتسعت لنطاق من الأسماء، عربي ولبناني، أوسع من البيئة التقليدية لـ «النهار». إلا أنها تعثّت تحت ضغط أكلافها المادية، وانتصاف تحريرها بين لبنان وفرنسا. هكذا انتقلت إلى بيروت أواخر 1981، ثم أقفلت عام 1990. جبران، الذي جعلته «العربي والدولي» اسماً عاماً، غادر إلى باريس، حاملاً جرحين: المجلة أقفلت وميشال عون انهزم.
التسعينات
كانت التسعينات عقداً مزدحماً بالأحداث الكبرى التي كتبت الصحافة أكثر مما كتبتها الصحافة. اتفاق الطائف افتتح عالماً جديداً: فهمُ لبنان تبعاً لمعايير الصيغة والميثاق، ولمركزية متصرفية جبل لبنان، أصبح تجهيلاً محضاً بلبنان. المسيحيون مهزومون. ثنائية رفيق الحريري و «حزب الله»، أي التحرير والتعمير، تحكم البلد في رعاية سورية.
«النهار» وغسان تويني تحديداً أتاحا المجال لأصوات عدة، الأمر الذي ربما عاد، في ذاك الزمن الملتبس، إلى رغبة في اختبار ما لم تعرفه «النهار» قبلاً. الصوت الأقوى، كما بلوره خلط القديم بالجديد، كان ذاك المُعارض الذي تسكنه المرارة المسيحية، وفي جوارها مرارة أصغر ليساريين أرّقهم صعود الدور المالي والسياسي للحريري، بعد الهزيمة التي أنزلها السوريون، عبر أتباعهم اللبنانيين، بالفلسطينيين وأتباعهم اللبنانيين. فآثار حرب المخيمات واغتيال الشيوعيين كانت تغذي النقمة على تركيبة ما بعد الطائف وتمنح الوجاهة للتشكيك بـ «عروبة لبنان» السورية.
أسماء غير نهارية تقليديّاً استقبلتها «النهار». في 1992، أعاد غسان تويني إصدار «الملحق» الذي تسلم رئاسة تحريره الروائي الياس خوري، الآتي من «السفير» ومن العمل في مؤسسات إعلامية وثقافية فلسطينية. خوري، الذي ساعده في التحرير منذ 1997 الشاعر عقل العويط، فتح أبواب «الملحق» لأسماء هي الأخرى غير نهارية: للشاعرين عبّاس بيضون وبسام حجار وللروائي محمد أبي سمرا والسينمائي محمّد سويد والكاتب بلال خبيز والناقد والفنان محمود زيباوي وسواهم، ولكتّاب سوريين وعرب لم تربطهم من قبل أية إلفة مع الجريدة البيروتية.
هذه التجربة الجديدة، التي قدّمت عبر الكتّاب المذكورين إضافات ملحوظة، حافظت على الغضب القديم لأنسي الحاج، لكنها جعلته أقل ميتافيزيقية وأشد تعييناً للمغضوب عليهم: الحريري والنظام السوري وطبعاً إسرائيل.
في أواسط التسعينات بدأ سمير قصير، الجامعي اليساري المعارض الوصاية السورية، والمقيم سابقاً في باريس، يكتب في «النهار». مقالاته الشجاعة مثلت انعطافاً عن الميل النهاري القديم إلى التمويه والتعمية.
هذه الوجهة، التي لم تُثر ترحيب النهاريين الأقحاح، وعلى رأسهم جبران، ذهبت خطوة أبعد في 1997، مع انتقال الكاتب السياسي جهاد الزين من «السفير» إلى «النهار»، مسبغاً على مقالاتها جرعة أعلى من التحليل والتدقيق.
يومذاك بدت «النهار» أشبه بفرقة موسيقية كل عازف فيها يعزف أغنيته.
لكن رفيق الحريري كان أيضاً يقترب من «النهار» التي تقترب، بدورها، منه. فببطء وتدرج، ومن وراء ظهر الوصاية السورية، حاول رئيس الحكومة الراحل أن يتفاهم مع الإحباط المسيحي وأن يتفهمه، وفي منتصف التسعينات اشترى حصة وازنة في جريدة آل تويني.
الموضوع النهاري الطاغي لم يعد نقداً مسيحياً – يسارياً لتعمير الحريري. لقد صار نقداً مسيحياً – حريرياً لثنائي النظام السوري و «حزب الله».
والتطورات ما لبثت أن تلاحقت معززةً التقارب بين المسيحيين والحريري، ما أثمر لاحقاً حركة 14 آذار. في 1998، انتُخب إميل لحّود، خصم الطرفين، رئيساً للجمهورية. في 2000، كان الانسحاب الإسرائيلي الذي لم يعقبه انسحاب سوري ولا تسريح لـ «حزب الله». ثم في 2001، في عهد بشار، انعقد لقاء قرنة شهوان…
التقارب الحريري – المسيحي صار أكثر فأكثر إزعاجاً لبشار الذي حل، في 2000، محل أبيه. كان من تعابير انزعاجه، ومن علامات المطابقة بين لبنان القديم و «النهار»، أنه شخصياً طالب الحريري بفض الشراكة مع آل تويني.
لكنْ، فضلاً عن السياسة المناهضة للوصاية، كان يجمع بين الحريرية والنهارية هوى اجتماعي وأيديولوجي، يقفز فوق التباين الطائفي، هوىً تعبّر عنه الكوادر العليا في المؤسستين اللتين تعجّان بالطامحين إلى الترقي الاجتماعي. هؤلاء وأولئك استهواهم «السيكت» الذي يعيش في «مجتمع مضاد» يوحّد بين أطرافه المطعم والفندق ومخزن الألبسة، كما يميزه عن سواه. لقد بدت عقيدة الاستهلاك واستعراض الاستهلاك جسراً آخر يجمع النهارية إلى الحريرية.
في هذه الغضون التسعينية، كان جبران يتقدم. ففي موازاة عمله في «نهار الشباب»، إبان 1993 و1994، راح يقترب من رئاسة التحرير التي تولاها مع نهاية العقد.
زخم «نهار الشباب» طفا على الصفحة الأولى، لكن الشبان المسيحيين كانت الهجرة تقلل عددهم يوماً بيوم. التحميس الجبراني، إذاً، بدا في بحث عمن يتحمس.
وجبران كان يملك من المواصفات الشكلية للزعامة أكثر مما امتلك أبوه. فالأخير ظل أقرب إلى الأستاذ الجامعي الذي مارسه بشيء من التقطع في الجامعة الأميركية ببيروت. أما نجله فكان مهيب الطلة ومؤثراً، وهو بثيابه الداكنة وتصفيف شعره وشاربيه، شابه الأعيان المحافظين في أوروبا الجنوبية في الثلاثينات. وقد تحلى بدينامية فائضة تذكر بدينامية أبيه، وبحب للتحديث لجهة استخدام الكومبيوتر ونشر الصور الملونة بأحجام كبيرة على الصفحة الأولى. لكنه كان بادي الاستعجال، بحيوية قد تفوق حيوية والده وبكفاءة تقل عن كفاءته. أحد النقاد تراءى له أن تويني الشاب هو الكاتب الوحيد في تاريخ الكتابة الذي يكتب مقالته وهو يمشي.
إنجاز جبران الأكبر كان الانتقال، عام 2004، من الحمرا إلى المبنى الجديد في البرج. لكنّ 2004 كان في حصيلته عاماً مشؤوماً. فيه نشبت معركة التمديد للحّود التي أعقبها اغتيال الحريري في 14 شباط (فبراير) 2005. انتخابات ذاك العام أتت بجبران تويني نائباً، وقد غدا أحد أقطاب حركة 14 آذار وصاحب «قَسَمها». لكن الإجرام كان قادراً على أن يقلب عرس الانتصار مأتماً: فالاغتيالات التي كرّت ما لبثت أن حصدته، بعدما حصدت سمير قصير وصوته الشجاع.
تلك الفاجعة التي نزلت بغسان تويني، المعذب بالكثير من الفواجع الشخصية والعائلية، استحضرت أكثر وجوهه نبلاً: دعا إلى الصفح والتسامح، كما نُقل عنه قوله المؤثر: لم يتركوا لي منه قطعة متماسكة أستطيع تقبيلها. لكنّ الوالد المنكوب والمسن استجمع ما بقي له من قدرات وإصرار وحل في المقعد النيابي لنجله الفقيد.
لم يبق إلا…
لقد رافق غسان تويني «نهار» الصيغة والميثاق صعوداً وهبوطاً، في موازاة صعود لبنان الصيغة والميثاق وهبوطه. أما نجله جبران فكان شهادة على أمل الخلاص بـ14 آذار ثم انقلاب الأمل وهماً مكلفاً. رحلته كانت قصيرة ودموية. لكنْ بعدها لم يعد هناك سوى اليباب.
العدوى الوراثية ضربت مجدداً واشتغلت على خطين: نايلة، كريمة جبران، حلت في رئاسة التحرير ورئاسة مجلس الإدارة، لكنها حلت أيضاً في المقعد النيابي ببيروت. أختها ميشيل باتت تشاركها كتابة افتتاحيات «النهار».
الكاتبتان تجهدان في استعارة أعمار وتجارب ليست لهما. تُطلاّن من علٍ بكثير من الوعظ والخطابة. لكن عمريهما يظلان أقوى من أن يُموَّها. وأغلب الظن أن القيادة الحاليّ ة لـ «النهار» بذلت جهوداً واجتهدت، لكنّ ما بات ينبغي الركض للّحاق به صار كثيراً جداً، يستدعي همة أكبر وساقاً أطول.
المال السياسي تقلص. المال المقيم حصصاً في المؤسسة تبخر. الإعلان انكمش. القراء ضمروا، وفي حالة «النهار»، انتصفت القاعدة المسيحية التي استندت إليها الجريدة تقليدياً ما بين ميشال عون و14 آذار. في المقابل، لم يتغير الإنفاق الباذخ للمعنيين بالأمر، ولا فُكر في الاهتمامات والمقاربات الجديدة للصحافة، ولا نشأت قضية عامة يمكن التعويل عليها.
جريدة «النهار» اليوم، بصفحاتها المتضائلة ومحرريها المسرحين، أشبه ببيت تنقطع الكهرباء كل يوم عن واحدة من غرفه. لا نزال نستطيع أن نقرأ نصاً مشغولاً ودقيقاً في السينما لهوفيك حبشيان، أو إحاطة مضيئة لسمير عطاالله، أو رأياً إشكالياً لجهاد الزين، أو رسالة مفيدة من واشنطن لهشام ملحم، أو تعريفاً بالحياة السياسية الإسرائيلية لرندة حيدر. ونلمس، لدى رموز الأجيال المتعاقبة على الجريدة، كيف استمر الجهد والمعنى يكافحان القالب المحكم: يصح هذا في متابعة إميل خوري أو سركيس نعوم، كما يصح مع نبيل وروزانا بو منصف وموناليزا فريحة وسواهم.
الانقطاع عن العالم الثقافي للشبان والشابات الأكثر تقدماً وحيوية. الرهان على «المنوعات» والإثارة مصدراً للخلاص المالي. شبهة عنصرية السنوات الأخيرة، لا سيما حيال النازحين السوريين. قضم التعويضات المستحقة لزملاء مصروفين، بعضهم قضى عشرات السنوات بين مكاتب «النهار» ومطابعها: حصيلة تشكل، في عمومها، مصيراً محزناً جداً، ومؤلماً جداً، لا «النهار» تستحقـــــه، ولا لبــــنان، ولا روايتنا عن أنفسنا من خلال «النهار»، ولا الحرية.
الحياة