مراجعات كتب

“النورس” لريتشارد باخ: طِر أعلى.. لِترى أبعد/ وجدي الكومي

 

 

يدعو باخ في روايته صراحة إلى التمرد، وإلى الخروج عن السرب

أسباب كثيرة يمنحها لك الروائي الأميركي ريتشارد باخ، لتحب كتابه “النورس جوناثان ليفنتجستون”، أبرزها أن الكتاب مليء بالحياة، والحيوية، يمنحك نفسه، فتقع في حبه، وتشعر أنه لا يحكي أي شيء، بينما فيما بين السطور رسائل عديدة، كتاب تظنه خفيفاً، لكنه ثقيل المعنى، تظنه عن قصة طائر، لكنك تشعر أنه قصتك، وقصة البشر من حولك، قصير، لكن حكايته ممتدة، ومعناها عميق، ورسالتها ملهمة.

يفتتح ريتشارد باخ روايته بسطور، تشعر أنها تستدرجك إلى حكاية خفية، يقول: كان الوقت صباحا، والشمس الوليدة تنثر الذهب على مويجات بحر وديع، على بعد ميل من الشاطئ بدأ أحد قوارب الصيد يلقي الطعم في المياه للأسماك، وبسرعة البرق سرى فى الهواء خبر حلول وقت فطور السرب، وفي الحال احتشد ألف نورس، وراحت تراوغ وتقاتل للحصول على مزق وفتات الطعام، ولكن بعيدا عن هذا كله ومنفردا بنفسه تماما، كان النورس جوناثان ليفنجستون يتدرب.

الحكاية البسيطة قادرة على أن تقول الكثير، أكثر من الحكاية المعقدة، ربما تختصر هذه العبارة الحيلة الروائية التي عمد إليها ريتشارد باخ، في روايته، هنا لدينا عالم هائل، هو عالم النوارس، بما يحمله هذا العالم من رموز مبطنة، كلها ترمي إلى الحرية، والوصول إلي آفاق، التحرر، والرغبة في التغيير، إنها رمزية بسيطة، قد لا تخطر على بال روائي من فرط سهولتها، وهو ما جعلها ذات قيمة، فالمعاني مطروحة في الطريق، ولا جديد تحت الشمس، وكل ما على الروائيين، أن ينحنوا ليلتقطوا الأشياء الملقاة أمام أعيننا، ويعيدوا تشكيلها في عوالمهم، لدينا النورس “جوناثان” الذي يتطلع إلى غير ما يتطلع إليه باقي النوارس، يتطلع إلى الطيران، والتحليق لأعلى، بدلا من البحث عن الطعام، يقول النورس جون : توجد أسباب أكثر للحياة، غير جرجرة أنفسنا في بلادة ذهابا وإيابا إلى قوارب الصيد وعودة منها”، نستطيع أن ننتزع أنفسنا من الجهل، نستطيع أن نجد لأنفسنا كمخلوقات ذات تفوق وذكاء ومهارة، نستطيع أن نكون أحراراً، نستطيع أن نتعلم الطيران.

إنها الحبكة البسيطة نفسها، المبهرة مع ذلك، فعلها قبل ريتشارد باخ الروائي الفرنسي أنطوان دو سانت أكزوبيري في تحفته “الأمير الصغير”، التي نشرت العام 1944، فيما نُشرت “النورس جوناثان ليفنجستون” العام 1970 للمرة الأولى، الجديد في طبعتنا التي بين أيدينا أن الروائي الأميركي الذي عاش حياة عريضة مثل أكزوبيري، وعمله مثله “طيار”، أصدر جزءا رابعا للرواية عام 2013، ليضفي على حكايتها المشوقة منذ عقود، التي جعلتها تحتل أرفف الأكثر مبيعاً، زخما جديدا، يضاف إلى العمل المزيد من التأويلات، والتفسيرات، كأن الروائي لم يكتف بما حققه العمل من أثر في الرواية الأميركية، أو كأنه يبحث عن تأويلات أخرى لعمله غير تلك التي وضعها القراء والكتاب، من الرغبة في الانفصال عن القطيع، والتحليق أكثر وأكثر إلى أعلى.

يبحث ريتشارد باخ عن الكمال، وعن التحرر من الحدود، عمله كطيار جعله أقرب للسماء. لعل فكرة الرواية جاءته في رحلة من رحلاته الجوية حينما كان طيارا حربيا، أو في رحلاته التي تلت ذلك حينما سافر إلى ايرلندا، الرواية تشتغل على تيمة السعي إلى تكسير القيود التي تربطنا إلى الأرض. حوار طويل يجريه النورس جوناثان مع النورس “تشيانغ” العجوز، يقول فيه: ماذا يحدث بعد ذلك العالم؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ ألا يوجد ذلك المكان الذي يُعرف بالسماوات العلى؟ فيجيبه النورس العجوز أكبر النوارس سنا: لا يوجد مثل هذا المكان… السماوات ليست مكانا أو زمانا، إنها حالة الكمال.

المدهش في الرواية أيضا، قدرة الروائي على التقمص، وتحوله إلى نورس، فيدلف بنا في عالم النوارس، ويجعلنا نتقمص الحالة، يستخدم عبارات من قبيل “ما أنا إلا نورس محدود بأوامر الطبيعة، لو كان مكتوبا لي أن أتعلم الكثير والكثير عن الطيران، لوجدت خرائط ومخططات مرسومة فى دماغي. لو كان مكتوبا لي أن أحلق بسرعة بالغة لولدت بأجنحة قصيرة كأجنحة الصقور، ولكنت أقتات على الفئران، لا الأسماك”.

هنا يدخلنا ريتشارد باخ رويدا رويدا إلى عالم الطير، يجعلنا نصدقه، نتخيل الروائي وقد صار نورسا، لن تدهش قارئك، إلا إذا أقنعته أنك قد صرت هذه الشخصية التي تحكي سيرتها، هكذا يمنحنا ريتشارد باخ حكاية حقيقية، لنورس يتمني أن يحلق، حتى عندما يستدعي تلك الأشياء التي تحبط البشر، حينما يقول: اكتشف النورس جوناثان، أن الضجر والخوف والغضب هي الأسباب التي تقصر أعمار النوارس” في العبارة السابقة ما يجعلنا ننفصل رويدا رويدا عن تقمصه، إلا أنه في مواضع عديدة يسترد أجنحة بطل روايته، خاصة تلك المواضع التي يحكي فيها عن تجارب الطيران، وتدريبات التحليق.

يدعو باخ في روايته صراحة إلى التمرد، وإلى الخروج عن السرب، والتحليق، كلما حلقنا إلى أعلى، رأينا أبعد، إنها رواية الحرية، رواية الرغبة في الوصول إلى الكمال، يقول النورس جوناثان: القانون الصحيح الوحيد ليس قانون السرب، بل القانون الذي يؤدي إلى الحرية، دون ذلك لا شيء آخر، وهكذا صدرت الرواية في السبعينات في ثلاثة أجزاء، دون الجزء الرابع الذي كتبه باخ آنذاك، ونحاه جانبا، ثم بعد مضي سنوات، بينما الطقوس والتقاليد تقيد البشرية، وتمنعها من التحليق، قرر باخ أن يفرج عن الجزء الرابع، يقول عبارة بليغة، في نهاية الكتاب، جعلها ملحقة بالجزء الذي أفرج عنه: لقد كنت أعرف ماذا أصنع في قرنكم الواحد والعشرين هذا، وأنتم مطوقون بالسلطة والطقوس، ضاق الطوق حول أعناقكم، حتى اختنقت حريتكم، ألا ترى؟ من المخطط أن يكون عالمكم آمنا، ولكن ليس حرا.

يحمل هذا الجزء من الرواية أسئلة عديدة، عن تدخل الروائي في نصه، بالإضافة والحذف، حتى بعد صدوره بسنوات وعقوده، بل تدخله بصوته المباشر الزاعق أيضا، وإن كان يحق له أن يعود إلى عمل سبق وكتبه منذ عقود، بالتعليق، أو إضافة فصل منقح، وهل يحتمل العمل العودة، خاصة إذا كان العمل حقق كل هذا النجاح الذي حققته رواية ” النورس جوناثان ليفنجستون” التي باعت مليون نسخة عام 1972، وتم تحويلها إلى فيلم عام 1973؟ أسئلة تجيب عنها تجربة باخ نفسه.

* صدرت الطبعة الكاملة من الرواية بأجزائها الأربعة والملحق الأخير للمؤلف عن دار الكرمة المصرية بترجمة محمد عبد النبي

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى