النوستالجيا العثمانية ومقام الفارسية ومفارقة “النطق”/ وسام سعادة
النوستالجيا العثمانية معطى عربيّ راهن، عبّر عن نفسه مؤخراً، على خلفية الحدث التركي. ليس هو بالمعطى الثابت والمتواصل، فهو يذهب ويأتي. وليس مبلورا كفاية، اذ يتداخل مع سواه، أو يتساكن بسهولة مع «سرديات العروبة»، أو القراءة «المذهبية الصرف» لنزاعات الشرق الأوسط.
للأسف ربما، لسنا أمام حركة «إخاء عثمانية» جديدة في البلدان العربية من أي نوع كان. وليس «الزمن الجميل» الذي يصار إلى الحنين اليه والبحث عن التدثر به هو نفسه عند كل من تبدر منه عاطفة عثمانية صغرت أو كبرت. فارق كبير، مثلاً، بين أن تكون «نوستالجياك العثمانية» كعربيّ، هي حنين إلى الحروب العثمانية الصفوية، أو إلى حصار فيينا، او إلى تجارب الإصلاح والتحديث في الدولة العلمانية، أي عصر التنظيمات، أو إلى تجربة السلطان عبد الحميد الثاني، والأخير هو الذي يستأثر بالعاطفة الجيّاشة عند الإسلاميين العرب، وليس مدحت باشا «أبو الدستور»، بل أن أكثر النوستالجيا العثمانية في صفوف الإسلاميين هي «حميدية» الوجهة، هذا عندما لا تكون عند الإسلاميين مشكلة مع التصوّف الشاذلي الذي كان يتبعه عبد الحميد الثاني.
عوامل واعتبارات عديدة تضمن لهذه النوستالجيا العثمانية حضوراً متقطعاً ومتأرجحاً في البلدان العربية التي كانت جزءاً من الدولة العلية، أهمّها فشل العديد من هذه البلدان في توطيد كيانات وطنية، ما بعد عثمانية، مستقرّة، في مقابل جذرية مشروع الدولة الأمة في تركيا الحديثة، ما أوجد «ازدواجية» في النظرة إلى تلك الأخيرة. فهي، من ناحية، تمكنت من تحقيق قطيعة بنيوية مع التقاليد الامبراطورية العثمانية، كي تبني نفسها كدولة قومية. وهي من ناحية ثانية، تمثّل الشكل المتجانس، الجمهوري، الحديث الذي اختارته الدولة العثمانية للبقاء، الأمر الذي يفسّر، إلى حد ما، الانتظارات العربية المعقودة على أردوغان منذ سطوع نجمه.
لم يكن لهذه النوستالجيا حظ كبير عربياً في القرن الماضي، فالقرن العشرون شهد صعوداً للمجموعة العربية على حساب «المحور التركي الإيراني»، بالمقارنة مع القرون الأربعة السابقة عليه، المحكومة أكثر بالثنائية العثمانية – الصفوية (وما بعد الصفوية، من أفشارية وقاجارية)، هذا على الرغم من «تفادي» تركيا وإيران في القرن الماضي للاستعمار الأوروبي المباشر المزمن الذي رزحت تحته أغلب البلدان العربية في مرحلة أفول ثم ضياع السلطنة.
«الحاجة إلى تركيا في مواجهة إيران» هي محرّك الموجة الراهنة من النوستالجيا العثمانية، وهذا يترافق مع افراز موانع تفكير وتدبير، تحول دون تحويل النوستالجيا حافزاً، لتوسيع الأفق، وفهم ما كان عليه هذا الماضي العثماني من أبعاد نفتقدها، منقطعة عنا، ليس بالمتاح «احياؤها»، انما من الضرورة استلهامها لتصحيح مقاربة العلاقات بين مجتمعات المنطقة ودولها.
هذا مثال. عام 2011، صدرت الترجمة العربية لكتاب أكمل الدين احسان اوغلي «الأتراك في مصر وتراثهم الثقافي» عن دار الشروق بالقاهرة. قدّم لها رجب طيب أردوغان بنفسه، فثمّن الكتاب الذي «يتحدّث عن التطورات التي وقعت في عهد محمد علي باشا وعهد أسرته» والتي تكشف «بشكل لافت عن ذلك الدور الذي لعبته اللغة التركية وثقافتها في ظهور مصر الحديثة»، مشيداً بأنها دراسة تبين «الى أي مدى يرتبط مصير تركيا بمصير مصر».
هذا الكتاب هام للغاية، لأنه مدخل لمراجعة السرديات الخرافية المهيمنة عربياً حول «النهضة العربية»، سواء تلك التي تعتبرها ثمرة الحملة الفرنسية، أو ثمرة نهضة الثقافة العربية في مصر في عصر أسرة محمد علي، أو ثمرة الأقليات المسيحية الشامية، أو تلك التي تعتبر أن الأصل فيها الصحوة السلفية بأشكالها المختلفة.
فكل هذه السرديات تغفل السمة العامة للحضارة الإسلامية السلطانية، من الأستانة حتى دهلي (دلهي لاحقاً)، كونها حضارة «الألسنة الثلاث»، العربية والتركية والفارسية (لاحقاً الأوردو بين مسلمي الهند).
والدولة العثمانية بالتحديد لم تعش في أي يوم أحادية لغوية في تراكمها المعرفي والابداعي (بما في ذلك في ظل «تركيا الفتاة»، فكما يقول المؤرخ حسن قايالي، لم تخرج جمعية «الاتحاد والترقي» عن «النموذج المثالي العثماني المجاوز للمستوى القومي»).
فكم يبدو، عند قراءة أثر اوغلي وغيره غريباً ان تتخذ «النوستالجيا العثمانية» عربياً اليوم منحى «أنتي فارسي»، فيتم اغفال محورية اللغة الفارسية في الثقافة العثمانية.
خيرة الشعراء العثمانيين، كفضولي البغدادي، أبدعوا بالفارسية، إلى جانب التركية (او التركية الأذرية) والعربية. لا بل أهم السلاطين أيضاً، من مراد الثاني إلى محمد الفاتح وديوانه «عوني»، إلى نجليه المتحاربين، بايزيد الثاني وجم، وكانا يتراسلان غداة المعارك بينهما بالشعر الفارسي، إلى فاتح بلاد الشام ومصر، السلطان الرهيب سليم ياوز، الذي ترك ديواناً كاملاً من الشعر الفارسي، لم يترجم إلى التركية إلا في اواخر اربعينيات القرن الماضي.
ثم ان سليم الأول المبدع شعراً في الفارسية، كان يخوض حرباً شرسة مع اسماعيل شاه الصفوي، لكن الصفوي كان يتكلم بالتركية، ويطرح نفسه كرمز وحدة القبائل التركمانية، وطلائعها المتشيعة المغالية «القزلباش»، وليس رمز الحضارة الفارسية، على ما قد تحمله سهولة الإسقاط حالياً.
كذلك نجد عند أحد اهم الفقهاء العثمانيين، شيخ الإسلام ابن كمال باشا رسالة بالعربية، في «فضيلة اللسان الفارسي على الألسنة سوى اللسان العربي».
حافظت الفارسية على مكانة مرموقة لها في الثقافة العثمانية حتى نهاية السلطنة، ولو انها تراجعت في القرن التاسع عشر اكثر فاكثر لصالح الفرنسية.
وهذا ينطبق ليس فقط على القسطنطينية. على القاهرة أيضاً. بالعودة إلى كتاب اوغلي الذي قدّمه أردوغان، نجد النهضة الأدبية والترجمية في عصر محمد علي ثلاثية لغوياً، تركية وفارسية وعربية. حركة الترجمة في مصر بدأت أساساً كترجمة من اللغات الشرقية والغربية إلى اللغة التركية. وفي المرتبة الثانية، كان الاهتمام بالفارسية. باستعادة اوغلي: «حظيت اللغة الفارسية وآدابها بمكانة كبيرة في عهد محمد علي باشا باعتبارها عنصراً أساسياً في التقاليد الثقافية العثمانية»، بل ان الطبعات الاولى لبعض الكتب الفارسية التي ظهرت في مطبعة بولاق سبقت استانبول. الطبعات الفارسية لـ»كلستان» سعدي، وديوان حافظ، و»بندنامة» فريد الدين العطار، وديوان عائشة التيمورية، ظهرت أولاً في مصر.
حضارة «الألسنة الثلاث» هي الجديرة بالنوستالجيا، والكاشفة أيضاً لمحورية القطيعة التي حققها مصطفى كمال، عندما ألغى ببيان له، اتخذ في التاريخ الرسمي اسم «النطق»، اللغة التركية العثمانية المكتوبة بالحرف العربي، مع أن «نطقه» هذا كتبه وقرأه بتلك اللغة التي قرّر بموجبه الغاءها، وهو قرأه بين 16 و20 تشرين الاول/اكتوبر 1927 على مدى 36 ساعة!
هذا اوقع النطق في مفارقة: هو عند الأتاتوركيين بحكم الكتاب المقدّس، لكن نشره بلغته الأصلية لا يروق لهم، كونه يلغيها، واستعادته بها تلغيه. وهذه مفارقة أي نوستالجيا عثمانية ممكنة اليوم، تركياً أو عربياً أو بلقانياً: نوستالجيا إلى شيء لم يرحل تماماً، لكنه لن يعود. احياناً هي توفر فرصة للاطلاع بشكل جدي على الماضي العثماني، واحياناً، ان لم يكن في غالب الأحيان، لانسداد السبل المعرفية اليه، وسبل المخيّلة.
٭ كاتب لبناني
القدس العربي