النَّسَق المُضمَر في قصيدة (الرُّعب والجنس) لمحمّد الماغوط/ د. مازن أكثم سليمان
تنبسِطُ الحركيّة البِنيويّة في قصيدة (الرُّعب والجنس) المنشورة في ديوان (غرفة بملايين الجدران _ 1964) على الشكل الآتي:
(من الخارج إلى الدّاخل _ ومن العام إلى الخاصّ _ ومن القبيح إلى الجميل).
قال الماغوط في مطلع هذه القصيدة:
“عندما أكونُ وحيدةً
ومُستلقيةً على النَّهدِ الذي يُحبُّهُ
يأتي إليَّ
زنِخاً كالقصّاب
وحيداً كطائرٍ عُذِّبَ حتى الموت
يعضُّني في فمي وشَعري وأذني
ويرفعُني بينَ يديه عالياً
كي أرى دموعَهُ من منابعها
لأرى ملايين القطارات المُسافِرة
تلهَثُ بينَ حاجبيْهِ الكثيفيْن”.
يُلاحِظُ المُتلقّي منذ بداية القصيدة تلك الحركيّة المُتناغِمة بين حدَّي ثنائيّة: الرَّجُل الغارِق في الزّنخ والوَحدة والتّعذيب (يأتي إليَّ \ زنخاً كالقصّاب \ وحيداً كطائرٍ عُذِّبَ حتى الموت)، والمرأة المُحاصَرة أيضاً بالوَحدة، والتي تمتلكُ عناصِرَ الجذب والجَمال (عندما أكونُ وحيدةً \ ومُستلقيةً على النَّهدِ الذي يُحبُّهُ)، إذ يتحقَّقُ اللّقاءُ المَرجوّ مُعوِّضاً الطّرفين عن آلام التّنائي والوَحشة، ومُقدِّماً لهُما التّوازن المأمول، والموئل الدافئ، والمُنقذ الجَماليّ في مُواجهة الاغتراب الفادح كما تُبيِّنُ القراءةُ للوهلة الأولى. قالَ الماغوط:
“عندما أكونُ وحيدةً
وشهوتي تتمايلُ كورق النَّخيل
يأتي إليَّ
بحذائهِ الضَّيِّق
ومعطفه المُموَّج كالبحر
يُمرِّرُ يدَهُ القذرة بينَ نهدَيَّ
ثُمَّ يمضي ولا يعود”.
وقالَ مُتابِعاً أيضاً:
“وعندما يجوع
وتتَّسِخُ ثيابُهُ مِنَ الحبرِ والكتابة
ولا يجدُ بيتاً أو شارعاً يأوي إليه
يأتي إليَّ
بطيئاً تحتَ الأشجار الجرداء
يُلوِّحُ شهوتَهُ كالسِّلْسِلة بينَ إصبعيْهِ”.
وعلى هذا النَّحْوِ تستمرُّ حركيّة القصيدة في بناء مَسارها المُتمثِّل بنفور الطّرفيْن من الفضاء الخارجيّ العام القبيح، ولجوئهما إلى الفضاء الدّاخليّ الخاصّ الجميل والحميم، ليكون كُلٌّ منهما بمنزلة المُعوِّض الوجوديّ _ الجَماليّ للآخَر، ومُعادِلاً موضوعيّاً للحُرِّيّة المَفقودة في ذلكَ الفضاء العام، وهو الأمر الذي يتأكَّدُ في المقطع الآتي الذي يُشيرُ فيه الشاعر إلى الرُّعب وتسلُّخ الجِلد في المُعتقلات والغيوم المرفوعة كالأشرعة على رؤوس الحِراب، حيث قالَ:
“يقفُ ذليلاً على الباب
والدُّموعُ ترفرفُ في عينيهِ كالعصافير
يقفُ وحيداً أمامَ العالَم
ليشقَّ طريقَهُ كالملّاحِ إلى سريري
في الظُّلْمة
الظُّلْمة العميقة الآسِنة
حيثُ الرِّيحُ تزأرُ
والأشجارُ المُبلَّلة تنوحُ كنسوةٍ مُغتصَبات.
يُطوِّقُني بينَ ذراعيْهِ
وينغرِسُ في لحمي كالصئبان.
يُحدِّثُني عنِ الرُّعب وأوراق السّرو الخضراء
عن تسلُّخِ الجلدِ في المُعتقلات
وتساقُطِ الشِّفاهِ في المَغاسِلِ
عنِ الصَّهيلِ القديمِ
والغيومِ المرفوعةِ كالأشرعةِ على رؤوس الحِراب”.
ينبسِطُ البُعدُ الأوّليّ للدّلالة في هذه القصيدة ليكونَ نمطاً من الهروب أو الانسحاب الحتميّ من العالَم الخارجيّ، وهوَ انبساطٌ يعكسُ النَّسَقَ الثّقافيَّ الظّاهِرَ في هذا النّصّ، حيث يتلمَّسُ المُؤوِّلُ بادئ ذي بدء الحركيّة البِنيويّة للقصيدة بوصفها انتقالاً دؤوباً من الاضطهاد والقمع والذلّ والرُّعب الهائل من السُّلطة، وما ينجمُ عن مُمارساتها من ظلاميّة وتغييب للحُرِّيّة في العالَم الخارجيّ المُحيط، إلى الدفء والمتعة والارتواء الجنسيّ في العالَم الداخليّ الذي يلجأ إليه الطرفان، لكنَّ التّقليبَ التّأويليّ، وتعميق الحركة الدّوريّة للفَهم تفتَحُ القراءةَ على ما هو أبعد من حدود هذا النَّسَق الظّاهِر، ذلكَ أنَّ ثمَّةَ ما يَشِي بدلالات أُخرى، وهذا ما نقبضُ عليه في قفلات المَقاطِع الثلاثة الأولى التي تُظهِرُ حُضوراً زائغاً للقلَق، وتأرجُحاً بالِغاً يدلُّ على أنَّ اللّقاءات كانَتْ تفتقدُ إلى الاستقرار الأصيل بين الطّرفيْن:
1_ “لأرى ملايينَ القطارات المُسافِرة \ تلهَثُ بينَ حاجبيْهِ الكثيفيْن”.
2_ “يُمَرِّرُ يدَهُ القذرة بينَ نهدَيَّ \ ثُمَّ يمضي ولا يعود”.
3_ “يُلوِّحُ شهوتَهُ كالسِّلْسلة بينَ يديهِ”.
من الواضح أنَّ القارئ المُؤوِّلَ يستطيعُ أن يُلاحِظَ في هذا السِّياق وجودَ فَجواتٍ تنكشفُ في عُمق البِنية النَّسَقيّة الظّاهرة للقصيدة، وتفتِّتُها من داخلها، وهيَ الفَجوات التي تُمدِّدُ دلالة القلَق من ناحية، وتجعلُ من مسألة الهروب المُبتغى غير ناجحة تماماً من ناحية ثانية؛ بمعنى أنَّ إشارات كثيرة تُبيِّنُ أنَّ هذا اللّقاء محكومٌ بعواملَ غير ذاتية إلى حدٍّ بعيد، وأنَّ فِراقاً آنياً أو كُلِّيّاً يتربَّصُ بالطّرفيْن، فالقطارات تعني السَّفر في دلالتها المَعجميّة المُباشَرة، فما بالُنا إذا كانَتْ تلهَثُ بينَ الحاجبيْن، والرَّجُلُ يُمَرِّرُ يدَهُ القذرة بينَ النَّهديْن، ثُمَّ يرحَلُ ولا يعودُ، والشَّهوةُ تُشبِهُ السِّلْسلةَ التي تُقيِّدُ، أكثر ممّا تعني اللّقاء والارتواءَ الجنسيَّ الذي يُحرِّر. ويبدو أنَّ هذا المَنحى يتجذَّرُ دلاليّاً في المقطع الآتي الذي قالَ فيه الماغوط:
“آهٍ لو كانتِ الذِّكرياتُ تمشي
طبقاتٌ كثيرةٌ من شفتي
ضاعَتْ في المَباغي والملاعِق
أشياء كثيرة فقدْتُها بلا معنى
(محارم، أزرار، حقول)
ولّاعات بشكل النُّجوم”.
وأكمَلَ قائلاً:
“الحياةُ مُملّة كالمطر بلا ماء
كالحرب بلا صُراخ أو قتلى
فأضحَكُ كثيراً
وأضمُّهُ بينَ ذراعي . . صغيراً صغيراً
أكادُ أشرَبُهُ كالنَّبيذ
ذلكَ الغريب الذي يصعَدُ إلى صدري
كأنَّني سفينة أو قطار”.
ثمَّةَ إذن ما يُؤرِّقُ الكائنيْن، أو بالأحرى ثمَّةَ ما يُفزعُ الجسَدَيْن، فالفقدان يُخيِّمُ على القصيدة، ويُمَزِّقُ اللّقاءات مُحدِثاً انقطاعات دلاليّة لافتة، وإلا كيفَ نفسِّرُ الرَّغبةَ في أنْ تكونَ الذّكريات كائنات قادرة على المشي سوى أنَّ الحُضورَ الرّاهِنَ لا يشفي ولا يُعوِّضُ؟ كما أنَّ الإشارةَ إلى إضاعة أشياء كثيرة باهظة، وأنَّ الحياةَ مُملّة كالمطر بلا ماء لا تخرجُ عن هذا السِّياق! فضلاً عن أنَّ ذكر الحرب المُفاجئ في المقطع الأخير يُرَسِّخُ اختلال التَّوازُن في العلاقة بينَ الجسَدَيْن، ويُعمِّقُ فكرةَ فقدان الاستقرار ومُتطلّباته كما يبدو.
وهكذا، تقودُنا هذه الثَّغرات الدَّلاليّة إلى مُجاوَزة القراءة لمُستوى النَّسَق الثَّقافيّ الظّاهِر نحوَ الغوص تأويليّاً في نسَقٍ ثقافيٍّ مُضمَر انطوَتْ عليه البِنية الحركيّة للقصيدة، وهوَ الكبت الجنسيّ، أو بمعنىً أوضح: عجز الجسَدَيْن عن بلوغ الارتواء الجنسيّ! ذلكَ أنَّ مَسارَ الهُروب أو الانسحاب من الخارج إلى الدّاخل لم ينجح في خَلْق المُعادِل التَّعويضيّ المُواجِه للرُّعب الذي تُسبِّبُهُ السُّلطة في المُستوى الخارجي العام، فالأنثى _ الجسَد لم تستطعْ أنْ تقدِّم للرَّجُل _ الجسَد الحُرِّيّةَ المنوطة بها بوصفها بديلاً عن القمع والخوف والذلّ، والعكس صحيحٌ أيضاً، وهذا يدلُّ على أنَّ ذلكَ الخارج الخطِر استطاعَ أنْ يقتحِمَ بقوّة الدّاخلَ المُموَّهَ بالاطمئنان، وأنْ يُخيِّمَ على مُناخاته ومآلاته، وهوَ الأمر الذي يحسمُهُ المقطع الأخير من القصيدة، عندما تنقلِبُ الحركيّة البِنيويّة على نفْسِها انقلاباً كاملاً، وتنعكِسُ ليصيرَ مَسارُها النِّهائيّ:
(من الدّاخل إلى الخارج _ ومن الخاصّ إلى العام _ ومن الجميل إلى القبيح).
قالَ الماغوط:
“وعندما ينهمِرُ المطرُ في الشّوارع
وتمتلئ الأزقّة بالبؤس والأوحال
ينهَضُ عن صدري
ويرفَعُ كتفيْهِ على شكل زورق . . ويمضي”.
إنَّ فَجوات التَّفتيت التي خلخلَتْ البِنية الحركيّة للقصيدة، ومهَّدَتْ للانتقال من مَدارات النَّسَق الظّاهريّ إلى مَدارات النَّسَق المُضمَر، قد حُسِمَتْ دلالاتُها تماماً إثرَ الحركيّة الانقلابيّة المُضادّة التي بسَطَها المقطعُ الأخير، وهيَ المَسألةُ التي فتحَتْ بابَ التَّأويل على مصراعيْه هُنا، وذلكَ تأسيساً على فكرة أنَّهُ لا يوجَدُ حُبٌّ (إذا افترضنا أنَّ علاقة الطّرفيْن تنطوي على حالة عاطفيّة؟!)، ولا يُوجَدُ جنسٌ أو تواصُلٌ طبيعيّ بينَ جسَدَيْن بأيِّ معنىً كان، ولا توجَدُ حتَّى حياةٌ إنسانيّةٌ بأبسَطِ أشكالِها، من دون مُناخٍ وجوديّ حُرّ. فما يسودُ في مُجتمعات الاستبداد والقمع لا يسمَحُ بالارتواء الجنسيّ أنْ يتحقَّقَ إلا ظاهريّاً!
ومُحصِّلةُ القول التّأويليّ: إنَّ (الذَّكَرَ _ الفحلَ) في هذه القصيدة واقعٌ تحتَ سطوة (عُقدة الخَصاء)، و(الأنثى _ الجَمال) واقعةٌ بدورها تحتَ سطوة (عُقدة الدُّونيّة). الذّكَر مُقيَّدٌ ومَسحوقٌ ومُمتهَنٌ، والمرأة عاجِزةٌ ومُنتظِرة بلا حولٍ ولا قوّةٍ ولا مُبادَرةٍ فاعِلة. الذَّكَر والأنثى هُما أسيران للرُّعب والحرمان والتَّهديد الذي تُمارِسُهُ سُلطة الاستبداد، والقصيدة بإذعانها البِنيويّ لحركيّة الخارج ترجئ الأحلام الفرديّة والكُبرى إلى أجَلٍ غير مُسمَّى.
شاعر وناقد سوريّ