صفحات الرأي

النَّظَرُ من مكانين/ ثائر ديب

 

 

نظر ماركس إلى توسّع الرأسمالية خارج حدودها القومية من زاويةٍ للنظر توجد في مكان انطلاق هذا التوسّع، فرأى فيه عملية تحديث سَتُرَسْمِلُ العالمَ على الشاكلة ذاتها، وإن يكن بمزيد من الألم. وتنظر بلداننا التي جرى هذا التوسّع فيها، بعد أكثر من مئة سنة على ماركس وأكثر من خمسمئة سنة على الرأسمالية، فترى في ذلك عملية استعمار لم ترسمل العالم على نحوٍ متجانس ولا يبدو أنها ستفعل.

يسارع شقٌّ من الفكر العربي السائد إلى تفسير هذا الاختلاف بين بلدانٍ ولدت فيها الرأسمالية من تناقضاتها الداخلية وأخرى تكونت فيها بفعل التغلغل الاستعماري، بأنه يعود إلى مجرد السَّبق الزمني، على طريقة ماركس، وأننا نعيش مرحلة انتقالية من أنماط سابقة على الرأسمالية باتجاه النمط الرأسمالي في مسيرة شبيهة بالمسيرة الأوروبية، وإن تكن متأخرة عنها. في حين يسارع شقٌّ آخر إلى رفض العملية برمّتها والجهاد للعودة إلى ماضي التراث الذهبي، الذي يرى أنّه لا يزال قائماً ويقاوم برغم كلّ الرسملة والتحديث.

يرى هذا الفكر السائد بشقّيه أنّ ما نتج عن العملية إلى الآن هو تجاور بين «القديم» و «الحديث»، يقفان فيه واحدهما إزاء الآخر كطرفين في ثنائية ضدية، لا تلبث أن تُشتَقّ منها ثنائيات لا نهاية لها. أي أنّ بنية مجتمعاتنا فصامية لا تتعدّى العلاقة بين عنصريها المذكورين علاقة التجاور الضدي.

والحال، إنّ ثمة مجالاً لرؤية أخرى من زاوية نظر توجد في مكان وصول التوسّع الرأسمالي خارج حدوده، من دون أن تتنكر لإنجاز ماركس في تحليل الرأسمالية وتوسّعها. نظرة واحدة تطلّ على الأمر من المكانين، إذا جاز التعبير، فتتخلص مرّة واحدة من وهم الخصوصية ووهم التعميم:

رَسْمَلَت الرأسماليةُ العالم حقّاً، لكنها لم ترسمله كلّه على نحو متجانس، لأنّ أغلب الاستعمار جرى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، حين بلغ تطور الرأسمالية في أوروبا مرحلة الإمبريالية التي تمنع التطور الرأسمالي في بقية البلدان من أن يتخذ الشكل الرأسمالي الذي اتخذه من قبل، وتجبره على اتخاذ شكل آخر تابع ومرتبط عضوياً، فلا يمكن فهمه خارج هذا الارتباط الذي يحول بينه وبين أن يصير رأسمالياً «سويّاً».

جوهر الرأسمالية التابعة أنّ عملية تكوينها بفعل الاستعمار لا تقضي على عناصر عديدة من البنية السابقة التي تفككها، بل تحافظ عليها في إطارها الجديد. والعلاقة بين تلك العناصر القديمة وهذه البنية الجديدة هي علاقة تسيطر فيها هذه الأخيرة. ذلك أنَّ «القطاع التقليدي»، سواء على مستوى الإنتاج أو نظام السلطة أو القيم الثقافية والفكرية، لا يقوم بذاته خارج البنية الجديدة والشكل الذي يترابط فيه مع بقية عناصرها؛ أي لا يقوم خارج علاقة السيطرة التي يمارسها عليه «القطاع الحديث» الرأسمالي. وهذا يعني أن سيطرة هذا الأخير هي التي تعيد إنتاج ما هو «قديم»، في الوقت الذي يترك فيه هذا «القديم» شيئاً من طابعه على البنية الاجتماعية بتعايشه مع القطاع أو النمط المسيطر.

ليس هذا كلّه باللعب على الألفاظ، بل وصفٌ معقّدٌ بعض الشيء لواقعٍ بالغ التعقيد. وهو وصفٌ تقف وراءه نظرةٌ واحدية ترى إلى البنية الاجتماعية بوصفها كلّاً تحركه آلية واحدة هي نوع مميّز تابع من الرأسمالية يعيد إنتاج «القديم» لا باعتباره شيئاً «موروثاً»، بل باعتباره جزءاً عضوياً من بنيته الراهنة.

لا شكّ في أنّ نتائج خطيرة محطِّمة للأصنام تترتّب على مثل هذه الرؤية.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى