الهاوية التي يجرنا إليها الفقه الظلامي/ سمير الزبن
لا تخطئ العين تكاثر المتحدثين باسم الدين حد التخمة، بوصفهم «حماته« من الذين يتعرضون له في الداخل قبل الخارج، ولم نعد نملك القدرة على متابعة سيل «الفتاوى« حول قضايا ما أنزل الله بها من سلطان. وأصبح كل من هب ودب يصدر الفتاوى، حتى وصلت إلى شيخ الحارة الفلانية وشيخ الزقاق العلاني. وكل واحد من «مفتي الحداثة« يعتبر نفسه «وكيل« الله على الأرض ومنفذ الإرادة الإلهية، يمنح نفسه على الأرض سلطات «إلهية مطلقة«، تقضي بقبض أرواح البشر لأتفه الأسباب. وأصبح باب الفتاوى مفتوحاً لكل من أطال لحيته، ولبس جلباباً قصيراً، وحمل سبحته وذهب إلى الجامع، حتى لو كان أميّاً.
هذه الظاهرة على غرائبيتها، لا يمكن تفسيرها بوصفها امتداداً لتراث يمتد في الماضي لأكثر من 1400 عام، حتى لو كانت تنسب نفسها لهذا التراث وتعتمد أردأ ما فيه لإصدار فتاويها. فهذه الظواهر في نهاية المطاف، هي ظواهر في غاية الحداثة، أنها وليد العالم العربي والإسلامي الحديث. ولا نجافي الحقيقة إذا قلنا أنها الابنة الشرعية للحداثة العربية المشوهة. وإذا ذهبنا مع ماكس فيبر باعتبار الأديان «أنساقاً لتنظيم الحياة»، فهذا يدفع إلى قراءة هذه الظاهرة في راهنيتها وحداثتها، بوصفها وليد الزمن العربي الحديث. بذلك تكون الممارسة الدينية التي تستهدف التأثير على حياة البشر وآلية إنتاجهم لمجتمعهم، لا تخص عالم الآخرة، بل تخص عالمنا الأرضي، العالم الذي نعيشه، العالم الذي نذبح فيه تحت رايات سوداء بفتاوى دينية اسود من الرايات ذاتها. بهذه الممارسة المتخلفة، يتكرس أردأ ما في التجربة الإسلامية، إذ يتم استدعاء «التراث« الإسلامي المغلق والظلامي والتكفيري الذي يحول العالم العربي إلى عالم أكثر ظلمة يوماً بعد يوم.
تشير «الممارسات» الدينية الحديثة بالمعنى السوسيولوجي إلى التعامل مع الدين بوصفه مجموعة من المفاهيم والقواعد والقوالب الجامدة، التي يمكن أن نصب فيها أي قضية؛ قواعد من الممكن التلاعب بها حسب الحال والطلب من خلال إسنادها إلى الدين. وبهذه العملية التسطيحية للقضايا المعقدة، يتم خلق القوالب مع القضايا للسيطرة على المجال الاجتماعي من خلال خطاب ديني شكلاني، وممارسات طقوسية، ومرجعيات مغلقة. وهذا ما يجعل الدين متعالياً على المجتمع، ويجعل من يعتبرون أنفسهم حماة للدين في مكانة أعلى من الآخرين، وكلاء للدين وناطقين باسمه ومنفذين لأوامره، وكل واحد أو جماعة تعتبر نفسها المرجعية النهائية «المتصلة« مع الله من دون وسيط؛ بما يدخل هذه الممارسات في تناقضات وصراعات تصل إلى التكفير لجماعات تنتمي إلى المجال الاجتماعي والديني عينه، أو تنتمي إلى الجماعة عينها.
في المجتمعات المدنية تستمد «القدسية« ذاتها من «العقد الاجتماعي» الذي تتوافق عليه هذه المجتمعات، بوصف المواطن هو السيد في دولته، وبالتالي البشر المتوافقون الأحرار هم الذين يصوغون «العقد الاجتماعي» الذي يحكم حياتهم ويملك آليات تغييره وتعديله عبر الهيئات عينها التي أقرته. إن مرجعية المجتمعات المدنية مرجعيات أرضية، أما الأديان السماوية فتستمد قدسيتها من انبثاق هذه الأديان عن الله مباشرة، وتستمد شرعيتها من تعالي الله وقدرته الكلية على معرفة كل شيء، وآليات التقديس توجد عبر الأوامر والنواهي التي يفرضها الله على عبده. فهي في جميع الحالات تأتي من خارج المجتمع البشري لتضبط سلوكه عبر هذه الأوامر والنواهي الملزمة، وليس على الإنسان سوى طاعتها من دون نقاش. والدين بالنسبة لأصحابه يعني عالماً كاملاً يتمتع بقوانينه الخاصة ومنجزاً بحد ذاته، له قدرته على التعبير عن مجمل تلاوين الحياة التي يجب أن تنتظم في الآليات التي تفرضها الكتب المقدسة.
«الفقه« الإسلامي، واحد من القوالب التي تستعاد من أجل الإجابة عن أسئلة العالم الحديث. وبما إن هذا «الفقه« خدم كل أنواع السلطات، فأنت تستطيع أن تجد فيه كل المتناقضات: أنه علم مطاطي، ذرائعي، خدماتي؛ مع الشافعي تم تكريس الفقه بوصفه المسؤول عن كل صغيرة وكبيرة في حياة البشر عندما قال: «ما من نازلة إلا ولها في كتاب الله حكم». وسرعان ما انتقلت إلى كل المذاهب الإسلامية، فأصبح النص القرآني المرجع النهائي وكتاب الحلول لكل المشكلات أو النوازل التي وقعت في الماضي، وتقع في الحاضر، أو ستقع في المستقبل. ولأن النص القرآني لا يقول، فقد عيّن بعض البشر أنفسهم «ناطقين« باسم النص، وبالتالي «ناطقين« باسم الله. ساد هذا المبدأ التاريخ العقلي والفكري العربي والإسلامي في أسوأ مراحله التاريخية، وهو يستعاد اليوم. عمل هذا المبدأ، على تحويل العقل العربي إلى عقل يقتصر دوره على تأويل النص لإيجاد حلول للمشاكل المطروحة. وهذا ما يسوغ تدخل رجال الدين في الشؤون الدنيوية. ويقوم هذا التدخل على قاعدتين رئيسيتين:
القاعدة الأولى، هي أن القانون الإلهي الذي جاء في كتاب الله هو ما ينبغي التقيد به وتطبيقه في إيجاد الحلول للشؤون الدنيوية، وليس القانون الإنساني. أما القاعدة الثانية، فهي أن القانون الإلهي ليس واضحاً في جميع الحالات، لذلك، فهو بحاجة إلى تأويل لاستكشاف خباياه. هذا الاستكشاف ليس متاحاً لكل البشر، ولا يملك هذه القدرة سوى حفنة خاصة من البشر، وقد عيّن الكثيرون أنفسهم في موقع الحفنة الخاصة من البشر.
إن «الحاكمية لله» هي القاعدة التي تحكم طبيعة الأحكام الدينية، وإن دور الإنسان مجرد دور تنفيذي. وهو المبدأ الذي يحكم سلوك الحركات الأصولية، ويحكم تصوراتهم عن المجتمع الذي يسعون إلى بنائه. وهذا ما عبر عنه سيد قطب، الأب الروحي للحركات الدينية الجهادية المعاصرة «بأن الجاهلية هي بالضرورة الخضوع لحكم البشر، لأن الحاكمية هي، مفهومياً، حكم الله».
بمزاوجة مفهوم الحاكمية مع مفهوم «الفرقة الناجية» عند الحركات الأصولية، يتم إنتاج جماعة تكفيرية مغلقة. جماعة يحولها مبدأ «الحاكمية لله» إلى جماعة تدعي لنفسها الحق في «تمثيل« إرادة الله. وهي تدعي أن من حقها تولي زمام الحكم على أساس احتكار معرفة مضمون القانون الإلهي ومستلزماته العملية، وامتلاك أعضائها الصفات والفضائل اللازمة لتنفيذ أوامر ونواهي الله. إن جماعة كهذه، يكمن مبرر وجودها في اعتقادها أنها وحدها المؤهلة لتنفيذ إرادة الله في الأرض، وهي وحدها القادرة على تنفيذ أوامر الله ونواهيه عبر العنف.
إن اعتبار الحركات الأصولية نفسها صادرة عن إرادة الله، من خلال مجموعة من المطلقات، يجعلها تتعامل مع القضايا السياسية والثقافية والاجتماعية بمنطق التحريم والتجريم وفتاوى الردة والكفر والقتل، وليس بمنطق الجدل والحوار والنقاش المفتوح. وبطبيعتها، لا تنمو في هذه الأجواء سوى الثقافة المغلقة التي تعدم مساحات الحرية وتطوقها بمقولات التحريم والتجريم، ما يعني إخضاع المجتمعات والتضييق عليها وبالتالي خنقها، من خلال الادعاء بأن كل ممارسة بشرية يجب أن تحظى بفتاوى التحليل، وإلا تجد التحريم في انتظارها يخرجها من دائرة القبول في المجتمع المحكوم بالآليات المغلقة. ولنا في سلطة «داعش» واخواته، نموذجاً دالاً على أي هاوية يجرنا إليها هذا الفكر الظلامي المغلق.
المستقبل