الهتافات السورية حرية للأبد
مهند الحسامي
قبيل اندلاع الثورة في سوريا، التي يؤرخ لها بالخامس عشر من آذار 2011، خرجت تظاهرة لم تكن في حسبان أحد، إن كان على مستوى المكان الذي انطلقت منه التظاهرة، أو على مستوى نوعية المشاركين، وطبعاً التوقيت الذي لم يكن محسوباً بالمرة، فقد كان الأمر برمته مجرد حادث.
في شباط من ذلك العام أهان شرطي مرور سائق سيارة، وكما يحدث في أي مشاجرة، كلمة من هنا وكلمة من هناك إلى أن وصل الأمر حدّ الاعتداء على السائق ومرافقه بالضرب. ولكن ما حدث تالياً لا يحدث عادة في هذي البلاد، لقد أدى الاعتداء الصريح إلى تظاهرة لأبناء حي الحريقة الدمشقي، وهو الحي المعروف كسوق لتجار الأقمشة الشوام. هاج الناس وماجوا هناك، نصرة لابن التاجر الكبير الذي جرى الاعتداء عليه. وهناك، في حي الحريقة، ولد أشهر هتاف للثورة السورية، التي ستبرعم بعد حوالي الشهر: “الشعب السوري ما بينذل”.
وبالطبع كان الشعب السوري قد تجرّع الذل مراراً وتكراراً على مدى أكثر من أربعين عاماً، لكنهم كانوا يرمون إلى القول إنه لن يسمح بعد الآن أن يذلّ الشعب السوري. وقد أثبتت الأيام والشهور التالية أنهم لم يكونوا يمزحون.. لقد ماتوا وذبحوا واقتلعت حناجرهم وعيونهم من أجل ذلك. أما الهتاف، فراح يكبر ويتلون ويظهر بحلة جديدة في كل مرة، لكن أجملها كان “الموت ولا المذلة”.
براءة تظاهرات الأيام الأولى، وطفوليتها دفعت المتظاهرين طويلاً لأن يبقوا عند كلمتين “حرية”، “سلمية”. وقد شهدت بلدات كثيرة نقاشاً مستفيضاً متردداً في حسم أمر الهتاف الذي بات لازمة للربيع العربي “الشعب يريد إسقاط النظام”، مثلاً كانت مدينة حمص من البراءة بحيث إنها اكتفت بـ”الشعب يريد إسقاط المحافظ”، هو الذي كانت تروى عنه قصص وحكايا في الظلم والنهب والفساد.
لكنها قيلت أخيراً، في كل قرية ومدينة وشارع “الشعب يريد إسقاط النظام”، ولما لم تفد هذه الصيغة المهذبة الفصيحة الأنيقة راح الناس يطلقون من قهرهم صرخات وشتائم لا تلتزم بالضرورة بإيقاع ولحن. يكفي أن نعود مثلاً إلى تظاهرات بلدة الكسوة في ريف دمشق لنتذكر أنها كانت تصرخ، وتشتم، أكثر من كونها تلحن هتافاً.
الهتاف السوري كان يريد لنفسه أن يكون نداء سحرياً، أن يكون شيئاً مشابها لـ”افتح يا سمسم”، أن يقول “الشعب يريد”، فيجري في الحال تحقيق مطلبه.
الهتاف غالباً ما يأتي حسب الحاجة، هو قبل كل شيء مطلب، وبيان، وتضامن. كانت هتافات التضامن مع المدن الأخرى أول الصرخات التي انطلقت، أساساً كانت هي مبرر اندلاع الاحتجاجات في المدن الأخرى، وطالما شاع هتاف من قبيل “يا درعا دوما معاك للموت”، ثم يروح الهتاف يتدحرج “يا دوما حمص معاك للموت”، “يا حمص ادلب معاك للموت”، وهكذا إلى أن دارت الدائرة على كل مدينة وشارع. لكن الشارع في ما بعد صار يقرأ السياسة أكثر، يقرأ حركة الداخل، كما يقرأ حركة المجتمع الدولي تجاه سوريا، فصار الهاتفون يأمرون بصيغة أو بأخرى. أو يستجيبون لندءات ومبادرات بعينها. إذا أوحى المجتمع الدولي بأنهم يريدون وحدة المعارضة، طالب المتظاهرون بوحدتها، وإذا طالب بإطار تمثيلي محدد، قال الشارع إن فلانا يمثلني، من هنا ولدت الصيغة الأكثر تداولاً في لافتات الشارع: “المجلس الوطني يمثلني”، “هيئة التنسيق لا تمثلني”، “الجيش الحر يمثلني”،.. إلى حد أن هذه العبارة أخذت طريقها إلى يوميات السوريين حتى على سبيل الفكاهة.
كذلك ردّت الهتافات دائماً على افتراءات النظام وممثليه من إعلاميي القنوات الخاصة، أولئك الذين صوّروا الثورة باعتبارها فتنة طائفية، وكان الرد بأن يُرفع المعارضون المتحدرون من طوائف وأقليات إثنية على الأكتاف. هكذا أخذت هتافات الوحدة الوطنية حيزا كبيراً ومثالها الأبرز “إسلام ومسيحية سورية بدها حرية”.
الهتافات خلال عامين كبرت، اشتد عودها، وقسا قلبها. بدأت تقول “سلمية”، ثم راحت تقول: مع التدخل الخارجي، الحظر الجوي، “الله محيي الجيش الحر”،.. المتظاهرون الذين بدأوا سلميين إلى حد شهدت أماكن عديدة تظاهرات لهم مع وردة وقنينة ماء لعسكر الجيش النظامي، صارت العسكرة لهم مطلباً حين رأوا قسوة النظام الاستثنائية.
بين هذه المطالب الهاتفة بأعلى صوتها كان المتظاهرون يتجولون هنا وهناك، راجت في حمى التظاهرات كلمات مثل “يا أهالي الشام، عنّا بحماه سقط النظام”. ومع طول أمد الثورة، راح السوريون يسخرون في هتافاتهم، يشتمون مرة، ويستلهمون الرسائل الالكترونية المخترقة ليطلقوا على أقطاب النظام شتى التسميات الساخرة.
كان كل حدث ملهماً بهتاف جديد ومختلف. فاسم رئيسهم، مثلما ساعد من قبل على اختراع هتافات لتخليده، من قبيل “إلى الأبد يا حافظ الأسد”، و”الأسد أو نحرق البلد”، كان من السهل أيضاً أن يستخدم الناس الايقاعات نفسها، فالاسم “لبّيس” أيضاً “حرية للأبد، غصباً عنك يا أسد”. “عاشت سوريا، ويسقط بشار الأسد”.
مختصر القول في الهتافات كلها ثلاثة أحرف: “ارحل”. قيلت في طول البلاد وعرضها، تحولت إلى أغان ومقطوعات موسيقية، من بينها تلك الأغنية الشهيرة للمغني الحموي ابراهيم القاشوش “يلا ارحل يا بشار”. لكن لا شيء يتسع لسرد هتافات السوريين في سنتين، فهم صاروا يهتفون ويخترعون الهتافات كما يتنفسون. الكل يهتف، والكل يغني، والكل يكتب لافتات، كما لو أنهم يكتبون بقهر السنوات الأربعين الماضية.
(كاتب سوري)
القدس العربي