صفحات الناس

الهجرة تستنزف جامعة دمشق/ سلام السعدي

 أطبقت حالة الاستنزاف والهدم على كل تفاصيل الحياة السورية. فتسارعت وتيرة الرحيل، وصار عدّاد الراحلين يحسب بالملايين، كما صار الهرب من بلادٍ مثقلة بدماء أبنائها غاية الغايات للسوريين كافة. من هؤلاء، طلاب جامعيون وأساتذة، هجروا جامعة دمشق، قاصدين علماً أو عملاً، كانا قد رحلا كذلك مع الراحلين.

لعقود طويلة، احتل التعليم الرسمي المكانة الأبرز في النظام التعليمي السوري. ومع افتتاح العديد من الجامعات الخاصة في مطلع الألفية الجديدة، تراجع الإقبال على التعليم الرسمي بعض الشيء، لكنه حافظ على الصدارة، في ظل ارتفاع أقساط التعليم الخاص بصورة لا طاقة لمعظم السوريين على احتمالها.

 وتعد جامعة دمشق، التي أنشئت في مطلع القرن الماضي، الجامعة الأضخم والأعرق في سوريا. وتضم بحسب بيانات وزارة التعليم العالي للعام 2010، نحو 140 ألف طالب في التعليم النظامي، تكاد تختنق بهم. إذ لطالما أهملت الحكومات السورية المتعاقبة في ظل حكم البعث الإنفاق على التعليم، بما يتضمنه ذلك من تطوير للبنى التحتية والخدمات، في مقابل إنفاق سخي على الأمن والجيش ومختلف أجهزة التحكم والسيطرة.

وكان من الطبيعي جداً أن يثير هذا “الخزان” البشري، مخاوف لا تنتهي لدى النظام. فمع اندلاع الثورة السورية، شهدت جامعة دمشق تشدّداً امنياً مضاعفاً، ذلك أن التشديد الأمني لم يكن وليد الثورة، وإنما رافق سيطرة حزب البعث على مفاصل الحكم. فقام بحظر نشاط الأحزاب المنضوية في “الجبهة الوطنية التقدمية” في الجامعات، وحصر النشاط بحزب البعث.

وحتى قبل الثورة، وُجد حاجز أمني على مدخل كل كلية تابعة لجامعة دمشق، حيث يستقبل عنصران أمنيان مسلحان الطلاب المقبلين على العلم في الحرم الجامعي، كما يتدخل “أمن الجامعة” بكل صغيرة وكبيرة مخضعاً الحياة الجامعية للهيمنة الأمنية.

وفي حين لم يكن السّعار الأمني، ليمنع إنتظام سير العملية التعليمية، كان لتطور الصراع في سوريا، وتدمير الاستقرار الاجتماعي دور كبير في تحطيم أسس الحياة الجامعية. ما دفع الطلاب والأساتذة إلى مغادرة البلاد والهرب من الحرب .

يقدر مصدر في جامعة دمشق أن “ما يقارب 10 في المئة من أساتذة جامعة دمشق غادروا البلد مفضلين العروض الممتازة التي جاءتهم من جامعات عربية”. وبحسب صحيفة حكومية أيضاً تؤكد مصادر أن “سلطنة عمان تعد الأكثر طلباً لأساتذة الجامعات السورية، وجامعاتها تقدم رواتب تعادل مثيلاتها في سورية إلا أنها بالدولار”.

يؤكد سامح، وهو طالب في كلية الاتصالات في جامعة دمشق، هجرة أساتذة الجامعات، ويقول لـ”المدن”: “من أصل 20 أستاذاً في قسمي، هاجر أربعة”، ويعتبر سامح أن أسباب السفر “لا تنحصر بكون الأستاذ متميزاً ومرغوباً من جامعات أخرى، أو بتراجع الوضع المعيشي، وإنما تعود أساساً لأسباب سياسية، كالخوف من النظام، وحديثاً الخوف من الجيش الحر”.

كما تراجعت أعداد الطلاب في جامعة دمشق بصورة كبيرة، وهو ما يؤكده سامح إذ “انخفضت نسبة الدوام لدينا بنحو 70 في المئة، كما انخفضت نسبة التقدم لامتحانات نهاية الفصل الدراسي بحدود 40-50 في المئة”.

تشرح سلمى، وهي طالبة في كلية الهندسة الزراعية، لـ”المدن” أسباب ترك جامعتها والانتقال إلى لبنان مع عائلتها. تقول سلمى: “مع مطلع العام الحالي، تزايد سقوط القذائف في حرم الكلية، وأصيب العديد من الطلاب واستشهد آخرون، ما دفعني إلى إيقاف الدوام أولاً، قبل أن يقرر والدي أن ننتقل جميعاً إلى لبنان”. تبدي سلمى استياءً كبيراً من وضعها الحالي، وتقول: “اشعر بفراغ كبير هنا. لقد بقي عام واحد على تخرجي، اشعر بالندم لهروبي من سوريا، كان علي أن أكمل العام الدراسي الأخير لي بأي ثمن”.

هنالك من لم يترك الجامعة بإرادته، خوفاً على حياته، لتتكفل أجهزة الأمن بإنهاء حياته الجامعية. إذ تعرض عدد كبير من طلاب جامعة دمشق للفصل التعسفي، وذلك بعد انخراطهم في التظاهرات السلمية التي شهدتها الجامعة في العام الأول من الثورة بشكل خاص. يشرح رامي، احد الطلاب الذين تعرضوا للفصل تجربته قبل أن ينتقل إلى مصر، قائلاً لـ”المدن”: “بدأت الحكاية باستدعاء مجموعة كبيرة من الطلاب ممن مارسوا نشاطاً سياسياً لمصلحة الثورة داخل الجامعة، وبعد تحقيق أمني مع كل منا، أجبرونا على التوقيع على تعهد بعدم ممارسة أي نشاط سياسي، واخبرونا أن الملف قد أغلق هنا”. ويتابع: “بعد أيام على ذلك، أصدرت رئاسة جامعة دمشق عقوبات طالت عدداً كبيراَ من أولئك الطلاب تتراوح بين الحرمان لفصل دراسي أو لفصلين، والفصل النهائي”.

ويشير رامي الذي ترك الجامعة منذ ذلك الحين، وانتقل إلى مصر حيث التحق بإحدى الجامعات، إلى أن  “أعداداً كبيرة من الطلاب مطلوبون أمنياً، ولا يستطيعون دخول الجامعة، برغم وجودهم في سوريا”.

هكذا، رأى النظام السوري في جامعة دمشق، التي تختزن طاقة شبابية واعية لضرورات التغيير وشغوفة به، خطراً داهماً يهدد بقاءه و استقراره، فعاث بها خراباً وتفتيتاً. ولا استثناء في ذلك، انه المصير الذي ألحقه النظام بكل فئة راودتها آمال التغيير، وعرفت أن النظام الحالي الذي جثم على حياتها لأربعة عقود، ليس حتمياً، وإنما بالمستطاع تغييره.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى