الهدوء الذي لا يُحتمل/ صادق عبد الرحمن
لا شيء مهما البتّة في هذا الليلة الصيفية الهادئة، الانتخابات الرئاسية بعد غدٍ، وغداً تشييع صديق قديم قتل برصاص “الجيش الحر” في معارك المليحة، واليوم صور فتى حلبي يدعى مصطفى قتلته غارة جوية وهو يبيع البسكويت في حي بستان القصر بحلب، وبالأمس كانت شبكة الانترنت معطلة في البلاد كلها لأسباب لا يعلمها إلا الشيطان، وأول من أمس كانت النقاشات المحزنة حول النازحين السوريين الذين شاركوا في الانتخابات الرئاسية السورية في لبنان، وهكذا إلى آخره من البؤس الذي يمتد إلى الأمام والخلف.. إلى ما لا نهاية.
***
ليس هذا مهماً على أي حال، فاليوم عادت شبكة الإنترنت إلى الخدمة في مكان هادئ تحت سيطرة الدولة السورية. صور المرشح بشار الأسد تملأ كل مكان، وأيضاً إعلانات عن مطاعم جديدة وحفلات ونشاطات ثقافية. هنا حيث تبدو الحياة كما لو أنها تسير على طبيعتها باستثناء أن رائحة الموت تعبق في كل مكان. أحياناً تبدو ليلةٌ هادئة كهذه في سوريا حلماً جميلاً، وأحياناً تكون عين الجحيم، الجحيم الذي يفتح أبوابه هذا الهدوء القاتل. تتزاحم الأسئلة في رأسك، وتخرج الأجوبة المتناقضة من كل حدب وصوب وترتطم بالصمت.
تبدأ الأسئلة في الهدوء على هذا النحو: هل ثمة مبرر لكل هذا الموت؟ لا شك في أن سؤالاً كهذا يبدو سؤالاً أحمق بقدر السؤال عن مبرر الحياة، متى كان هناك للحياة مبررات حتى يكون للموت مبررات، لكن مهلاً.. الحياة والموت لا يحتاجان إلى تبرير، لأنهما معاً يشكلان الحقيقة الوحيدة على وجه هذه الأرض، إلا اننا لا نتحدث هنا عن الموت، بل نتحدث عن القتل، القتل على هذا النحو غير مبرر. غير مبرر نعم، لكنه مفهوم. يا لهذا السخف، هل يمكن لك أن تعثر على الفارق الحقيقي بين ما هو مفهومٌ وما هو مبرر؟
غارقاً في اللغة وفقه الفوارق بين الكلمات والمفاهيم يعاجلك الـ”فايسبوك” بالشتائم الطائفية المتبادلة. هذه الطائفية مثلاً، هل هي أمر مفهوم أم أنها أمر مبرر؟ مفهوم بلا شك، لكنه خطاب لا يمكن تبريره. هكذا تبدأ معالم الفارق بين ما هو مفهوم وما هو مبرر بالظهور. لكن اللغة لا تزال عصيّة على تحويل هذا الفارق إلى كلمات.
تتكامل الخطوط رويداً رويداً، يمكنك أن تفهم لماذا يمارس الإنسان القتل، لكنك لا تملك تبرير القتل، ذلك لأن الفهم محاولة لتحليل الفعل وإدراك أسبابه، أما التبرير فهو شرعنة للفعل. هكذا تقترب من إجابة مرضية على أحد الأسئلة. هذا القتل الذي تم تعميمه في البلاد مفهوم، بل إنه يجب أن نفهمه جيداً، لكن تبريره أو تبرير جزء منه يعني التحريض على إدامته، يعني تشريعه. هكذا يقترب السلام والرضا من قلبك، ويستعيد الهدوء بهاءه النادر، أنت خارج كل هذه الحرب، تتفهم لماذا يتقاتل هؤلاء الناس، تتفهم آلامهم ومخاوفهم وأحلامهم، لكنك لا تبرر هذا السلوك، لا تمنحه صكّ الشرعية ولست جزءاً منه.
يتقاتلون.. تواجهك اللغة بضربة خاطفة تحطم بهاء الهدوء وترجعك إلى الجحيم، يتقاتلون أم يقتلون؟ القتل مفهوم لكنه غير مبرر، لكن ماذا عن القتال؟ يعلو الضجيج في رأسك، لا شك في أنك ما كنت لتغرق في هذا الضجيج لو أن ثمة بندقية تترصد روحك خلف باب الغرفة، كنت ستقتل أو تقاتل دون أن يعنيك الفارق. هذا الفارق بالضبط لا يبدو مهماً بالنسبة لمن هم في قلب المعركة، لكنه يعنيك تماماً وأنت جالسٌ في جحيم هدوئك.
القتل والقتال، الثورة والتمرد والحرب الأهلية، الوطن والدولة وقريتك الصغيرة، أن تموت أو تعيش أو تقاتل أو تستسلم، أن تنتخب أو لا تنتخب، يتحول الأمر إلى ما يشبه معركة مفتوحة مع أفكار وأسئلة وأجوبة يرفع الهدوء من صوت تصادمها في رأسك الذي يصبح فجأة بارداً وخاوياً من كل حياة كقطعة جليد قاسية، قطعة جليد يكسرها رنين الهاتف الخلوي: التشييع غداً في التاسعة صباحاً.
***
صباح الثاني من حزيران وقبل الانتخابات الرئاسية بيوم واحد، بعد ربع ساعة من الآن سيتم تشييع جثمان صديق قديم كان شريكاً دائماً في لعب الكرة، إلى أن ساقته أقداره البائسة إلى القتال ثم الموت إلى جانب “القوات النظامية” في بساتين المليحة. هل أستطيع المشاركة بتشييعه فعلاً؟ هل سأحتمل النفاق المرافق والإتجار بدماء هذا البائس؟ هل سأحتمل بكاء أمه أو عجز أبيه وانكساره؟ ربما أفكر في أن أحتمل كل هذا كي أحظى بفرصة السير في موكب وداعه الأخير. لكن لن يكون بمقدوري أبداً أن أحتمل الهدوء والصمت، الهدوء الذي سيلي مراسم التشييع، والصمت الذي سيسبق صباح “الانتخابات الديموقراطية الأولى في تاريخ الدولة الوطنية السورية”.
(دمشق)
السفير