الواقع العربي استراتيجياً ..
سليمان تقي الدين
فهم الواقع شرط لتغييره. هذه الطاحونة من الشعارات السياسية العربية غير المستندة إلى فهم المتغيّرات في بلادنا والعالم تعمل سلباً على حقوقنا وقضايانا. هناك ضجيج هائل بعضه مقصود وبعضه الآخر اعتياد على التفكير والتصرّف بلغة قديمة ومفاهيم مكرورة من زمن آخر. نحن نعيش في جو من الإرهاب الفكري والسياسي حتى يصعب علينا تسمية الكثير من الأمور بمسمياتها.
لنبدأ مثلاً من فلسطين. هذه القضية الأعدل والأهم والأخطر تحوّلت إلى وسيلة للتلاعب وذريعة لسياسات لا علاقة لها بحل هذه المسألة. نتيجة موازين القوى والتاريخ المشوّه وتراكم الأخطاء صار شعب فلسطين في مكان والعالم كله في مكان آخر. تحوّلت فلسطين عند الكثير من العرب إلى استثمار سياسي تعطي شرعية لأوضاع لا تملك شرعية. واقعاً ليس هناك لدى أي طرف عربي مشروع فعلي لحل قضية فلسطين، فضلاً عن العجز الذي يتلطّى باللفظية حيناً والانتهازية حيناً آخر. قضية فلسطين أصعب من توحيد «الكوريتين» الشمالية والجنوبية، وأصعب من توحيد الصين الشعبية والوطنية. صواريخ كوريا وعملقة الصين لم تحلاّ مشكلة هاتين الدولتين. هناك منظور آخر وسياق آخر يجب أن يتوافر لحل قضية فلسطين.
لنأخذ الواقع العربي في علاقته بمركز القرار الدولي السياسي والعسكري والاقتصادي. في الربع الأخير من القرن الماضي حصلت تغيّرات كثيرة معروفة على المستوى العالمي وعلى المستوى الإقليمي. لكن العرب نفضوا أيديهم من الخيارات الوحدوية وأوغلوا في السياسات القطرية وفي تناحراتهم وتناقضاتهم وألغوا من جدول أعمالهم «الدولة الوطنية الشعبوية» أو رأسمالية الدولة وذهبوا في اتجاه السياسات الاقتصادية الليبرالية وأضافوا لها كل أشكال الفساد.
ما بقي من «تضامن عربي» أخذ شكل مساعدات مادية من الأغنياء للفقراء صبّت في الحفاظ على الأوضاع السياسية السلطوية. دعم العرب العراق بالسلاح والقروض، عراق الثروات الهائلة، ودعموا سوريا بالمال السياسي الذي لم يستخدم في مشاريع التنمية. تحوّلت مصر وظهيرها السوداني وجناحها الليبي (الثروات الطبيعية غير المستثمرة والمال النفطي المبذّر على مشاريع سياسية وهمية).. تحوّلت مصر إلى دولة يدعمها الأميركيون بمال سياسي لا باستثمارات. أما المال الخليجي فحدّث ولا حرج عن وسائل إنفاقه وعن مصادرة فوائضه من الدول المتقدمة.
خلال ربع قرن قامت إيران «بتصدير الثورة» بنشر ثقافة دينية لا تنمو إلا في بيئة مذهبية، وبنشر مساعدات مالية لبعض العرب المهمّشين ومنهم حركات إسلامية «الجهاد وحماس»، ولسوريا التي صارت يتيمة في نظام عربي رسمي يريد حلاً للصراع العربي الإسرائيلي بأي ثمن.
بدأت الألفية الثالثة بهجوم غربي على المنطقة يستثمر الانفراد الأميركي بقيادة الدول المتقدمة ويملأ فراغاً هائلاً في الشرق الأوسط ويسعى إلى احتلال قلب العالم القديم والتحكّم بضفاف آسيا وأفريقيا وأوروبا. أعيد احتلال المنطقة بالقواعد العسكرية والأساطيل والاتفاقات الأمنية وبانصياع كامل من جميع الدول العربية. سقطت المنطقة كلها في يد الأميركيين إلا بعض مقاومات هي مزيج من الحفاظ على الذات أو تعديل لموازين القوى السلطوية.
مقاومة العراق، مقاومة فلسطين، ومقاومة لبنان، لم تشكّل خط مقاومة عربياً ولا محور استقطاب سياسياً ولا نموذج خيار يراكم على قضية التحرّر والاستقلال، بل تحوّلت إلى انتفاضات موضعية تحت سقف ثقيل لنظام عربي يقوده مجلس التعاون الخليجي في ظل انهيار دور الدول الوطنية. وقعت الجزائر أسيرة التجاذب الأميركي الفرنسي والبيروقراطية العسكرية والحركة الإسلامية، وخضعت ليبيا لشروط الدور الغربي وأدارت ظهرها لقضايا العرب، ودخلت اليمن في أزمة تكوين دولة حديثة مركزية موحدة تحت قيادة قبلية في بلد فقير تتلاعب به أغنى دولة في المنطقة وأكثرها تقليدية ومحافظة وتبعية.
ما فعلته سوريا خلال هذا العقد التفكيكي التركيبي للنظامين العالمي والإقليمي هو مجرّد سياسة دفاعية سلبية بتراجعات منتظمة ميدانياً في لبنان والعراق وفلسطين وبانخراط برغماتيكي في التوازنات والتناقضات الخارجية. تعرّضت السياسة الكبرى لسوريا إلى خسائر نوعية وعضوية في دور نظامها. خسرت لبنان الكيان المتعاون، وخسرت الدور المستقل في العراق، وخسرت الجسم الشرعي الأساسي الممثل لشعب فلسطين، وخسرت أخيراً بعضاً من شرعية نظامها التي كانت تستمدها من تعاونها وتفاهمها مع المملكة العربية السعودية. ما حاولت تعويضه عبر علاقاتها بتركيا لم يصمد، وما حاولت نسجه على التناقضات الأوروبية الأميركية لم ينجح. وحده الحليف الإيراني يعطي سوريا بسخاء ويأخذ منها بسخاء أيضاً لأنه يضعها خارج المنظومة العربية السائدة.
انفجرت أزمة سوريا بضغط دولي لا جدال فيه. فقد حاصرها خصومها من كل جانب. لكن عناصر الأزمة ثلاثة: استهداف دولي قديم جديد، واستهداف عربي على تشكيل قيادة العرب ونظامهم الإقليمي، ومشكلات داخلية يستحيل القفز فوقها برصيد «الوطنية» و«العروبة» و«الشعبوية» و«الممانعة». فقد صارت هذه الدفاعات أضعف من أن تصد مطالب جمهور مفقر مهمّش ومحروم من حقوقه السياسية والمدنية وخاضع لسلطة لا تشبهه ولا تعبّر عن طموحاته ولا تعكس ثقافته وخياراته. وليس أدل على عمق هذه الأزمة من تمركز الخطاب السياسي لهذا النظام عند الاستهداف الأميركي الغربي والعربي لإيران ولقوى «الممانعة». فلا الدفاع عن إيران برغم مشروعيته يوفر كل المبرّرات العربية «الوطنية» والاجتماعية والإنسانية، ولا سياسة الممانعة تصرف في رصيد مقابل لحاجات شعوب المنطقة الأساسية، كما لم تعد تصرف إلا في حدود موقف دفاعي يتراجع تدريجياً تجاه قضية فلسطين.
من هنا يجب أن نبدأ.. من هنا يجب أن نفكّر بقضايانا العربية.