الوثنية السورية/ محمد دحنون
يولد التاريخ في اللحظة التي تكتشف فيها جماعة بشرية أن ثمة خللاً كبيراً وقع في الماضي، ولم يجر العمل على إصلاحه، بل إن نظاماً اجتماعياً كاملاً بني على هذا الخلل. وتأتي الأحداث الكبرى، الانفجارات الاجتماعية أو الثوّرات، كمحاولة لتدارك الأمر ولصناعة التاريخ، من دون أن تكون إمكانية نجاحها مضمونة. أما المضمون بصورة مؤكدة، فهو الألم والخراب.
عندما يجري النظر إلى الانفجار الاجتماعي، وفق ما تقدم، تختصر الجماعة المعنيّة الطريق على نفسها، حين تعي ألا إمكانية للوم أحد على ما أصابها. ويجب ألا يُنسى أنه لا الضمير العالمي، ولا السياسة، ولا النظام وأبناؤه الشرعيون الذين يحاربونه، مسؤولون عما يجري في سوريّا، بل الحرية.
شكلت الثورة فرصة ذهبية لتبيّن المعنى العميق لأزمة “الكيان السوري”، عبر كشفها حال التفكك الاجتماعي، وغياب الهوية الوطنية. وليس هذا مهماً في حد ذاته، فالمهم أن هذا الغياب تم ملؤه واختزاله بنظام قيم اجتماعي يتمحور حول قيمة واحدة يبدو أنها تمنح كل شيء مشروعية الوجود، وهي السلطة. علماً أن العقود الأربعة الماضية كانت كفيلة بصناعة مفهوم سوري للسلطة يحيل إلى كل ما هو نقيض للحرية كمفهوم وقيمة.
تتخذ الثوّرة، كفعل تاريخي، موقعاً ريادياً في بناء الذات الوطنية، وهي، في الحالة السورية، الفعل الاجتماعي التاريخي الأوّل الذي طرح على نفسه إمكانية بناء الذات كتحدٍّ، إذ لم يشتبك السوريون مع بعضهم يوماً، وحقاً، كما يفعلون اليوم، في صراعهم العنيف الذي يدور على شيء زهيد هو السلطة.
لا شيء أكثر من البحث المؤلم عن الذات، هو ما يمنح الجماعة الوطنية قدرتها على صنع صورتها وذاتها، وهي المهمة التي تطرح نفسها على الجديد طالما أن القديم لا يجد مبرراً لأي تغيير.
في يوم من أيام هذا الشهر، قبل أربع سنوات، اكتشف سوريون أن ازدراء السلطات الدنيوية ممكن. وخلال وقت قصير ارتفع عدد من لا يعتبرون الأمر مجرد إمكانية، بل واجباً. بعد حين، بات الازدراء مصدراً للمتعة؛ ذاق سوريون لذّة التمرد، وحلّقت روح حرّة في سماء البلد.
اقتصر الهتاف الأوّل على كلمة واحدة، رُددت بطريقة تستوحي من طقوس العبادات القديمة، هتف سوريون: حرية حرية حريّة. بعد وقت، وحين لم يكن للخيال الشعبي المقيّد إلى هتافات وشعارات باتت بائدة اليوم، القدرة على تأليف الأهازيج، قرن السوريون تلك الحرية الخام بمطلق سماوي، هتفوا: الله أكبر… حريّة. لم يكتفوا بذلك، بل أصّروا على إيقاع أنفسهم في المصيّدة، صرخوا: الموت ولا المذلة.. ولبيك يا الله.
ووفق طرقه الغريبة دوماً في الاستجابة لعباده، استجاب الله للسوريين عبر الموت والدمار والتشريد، بنية إلهية صريحة: تحريرهم من الخوف “الدنيوي” الذي بات طبقة كثيفة تخنق الضمائر والأرواح.
ما لا يجري الاعتراف به، أو الحديث عنه عادة بصوّرة موّسعة، هو أن السوريين كانوا قد بالغوا في صناعة عالم وثني، يجري عادة تقديمه بصفته جانباً من جوانب “شمولية النظام” و”عنفه” و”وحشيته” و”لا آدميته”. فهو من فعل السلطة التي “نثور” عليها، وليس نتاج نظام اجتماعي كما يمكن الزعم. لهذا السبب ستغيب المحاولات الجادة، والضرورية، لتحرّي الأثر الذي خلفته تلك الوثنية في الضمير السوري، الفردي والجمعي على حد سواء، ومن دون تلك المحاولات، لن يجد السوريون هويتهم الوطنية سوى في المزيد من الموت.
قبل أن ينقسموا إلى موالين ومعارضين، حكمت الوثنية عالم السوريين اليومي، فقد كان الاستمرار في العيش مشروطاً بالانضواء تحت رايتها. والسعي إلى المشاركة في صنع معابدها وكهنتها ورموزها، وتسييد نظامها القيمي والأخلاقي، كان الطريق إلى الترقي الاجتماعي؛ إلى السلطة مجدداً.
وصل الدين الوثني السوري إلى واحدة من لحظاته التاريخية الكبرى، حين أعلن سوريون عدم تصديقهم لحقيقة أن الرجل الذي حكمهم طيلة عقود، والذي مات مطلع الألفية، قد مات فعلاً.
نجح الرجل في الذهاب بعيداً بصناعة شروط ذل السوريين وهوانهم، كثمن اجتماعي للنظام الديني الذي أرساه، ومَن كان يعبد حافظ الأسد، أو حتى من ثار عليه، فإن الرجل قد مات، أما النظام الوثني الذي أرساه، لا سيما في جانبه القيمي والإخلاقي، فلم يمت.
الخسائر كبيرة حتى اليوم، بشراً وحجراً، لكن ربما كان أبرزها استمرار النظام القيمي والإخلاقي للوثنية السورية في الفعل التاريخي الذي يعلن ثورته عليها. لم يشغل هذا الأمر الحيز الذي يجب أن يشغله في عالم الثورة، بنخبها وناسها، بأفرادها وجماعاتها.
بعد لحظة قصيرة ارتقى فيها سوريون بوجودهم من مجرد باحثين عن لقمة العيش إلى ثوّار، بدأت آليات الوثنية القديمة بالعمل من جديد. ضربت الوثنية كل شيء خارج النطاق العفوي للناس الذين دفعوا، وما زالوا، الثمن عن حرية لم تجد حتى اليوم من يُمنحها معنى متعيّناً في واقع الناس وحياتهم اليومية.
لم يتحرّ سوريّو الثوّرة المدى السطحي للحرية السياسة المتمثلة في “إسقاط النظام”، بل ولم تنفع أربع سنوات من الألم الذي يفتك بيوميات الناس في فتح نقاش عما نريده من الثورة، ليس اليوم أو غداً، وليس سياسيّاً واقتصادياً، بل أخلاقياً وقيمياً.
ما هي الثقافة الجديدة التي يريد السوريون أن يطووا بها صفحة النظام الوثني، والتي يريدون أن تشيع في تعاملات السوريين؟ هل تحقق منها شيء؟ ما هو؟
المدن