الوحدة أو التفكك/ عناية جابر
طبعا أن الاستقرار قد انهار بعد ان صارت شرعية الأنظمة غير مطروحة من زاوية الوحدة ونقيض سايس- بيكو. طبعا أن العلل الطائفية الداخلية لدول الكيانات العربية الناتجة عن هذه الاتفاقية الاستعمارية سوف تطفو على السطح. طبعاً إن غياب هم الوحدة وبناء دولة ناهضة تنموية سوف يغيّب المشتركات العليا لشعوب هذه الكيانات ويعيدها إلى صراعاتها التقليدية السابقة. وهي صراعات تدميرية ودائرية فليسمح لنا بقول هذه الحقيقة بداية كما لو كانت طعنة سكين في الرأس أو القلب لا فرق.
هذا مؤكد كتوصيف. لكن أن نخلص من ذلك الى نتيجة مفادها أن طريق الوحدة كان سيئاً وها نحن نسلك طريق الحقيقة على ما يعتري هذه الحقيقة من صعوبات ومشكلات ومضامين مؤلمة، هو الإستنتاج الغريب من الناحية المنطقية. أن نخلص الى أن طريق الوحدة قادنا الى تعميق المشكلات بين الكيانات والشعوب فقط لأن من قادها فشل في تحقيقها، فهو غاية في الطرافة الفكرية.
يعني لو طبقنا هذا المنطق على الطبيب الجراح الذي فشل في معالجة المرض لبدا كما لو أن الشفاء طريق خاطىء، والحقيقة الوحيدة هي المرض والإستغراق به. فإذا أمضت الشعوب العربية نصف قرن من حياتها تناضل من أجل إلغاء مفاعيل التجزئة التي نتجت عن اتفاقيات سايس- بيكو فلأن هذه الشعوب فهمت هذه التجزئة كمرض عضال في جسدها ويحتاج الى الجراحة لاستئصاله. أو لأنها فهمت التجزئة كمرض خطير لا يمكن إهماله.
لم يخف على القاريء هنا عرضي لوجهات نظر أصحاب نظرية نهائية الكيانات العربية وأولوية دواخلها ومعالجة مشاكلها الاجتماعية والسياسية، أولئك الذين يظنون، عن سوء نية أم عن حسنها، أن المشاريع الوحدوية التي هيمنت على الجو السياسي العربي في قسم كبير من القرن العشرين وحتى نهاية الستينيات إجمالاً، كانت تخفي استقراراً خادعاً ومشكلات مكبوتة بالاحلام الكبيرة بدل المعالجة البسيطة الموضعية.
على اي حال عادت البلاد العربية بعد حرب عام1967 إلى الاتجاه الكياني، ‘ الطبيعي’ برأيهم، وتراجع تأثير التيار الوحدوي وتوقف صعوده. لكن هذه العودة لم تكن عودة هادئة بل تخللتها انتفاضات، على ما كان مكبوتاً بالعنف، أخذت صوراً تجلت بمعارضات طائفية شيعية وسنّية حسب البلد. باعتقاد أصحاب هذه النظريات أن مشاكل الوحدة حجبت المشكلات الحقيقية وتركت الأنظمة والدول الكيانية تراكم العيوب حتى انفجرت تحت ثقل المشكلات الإجتماعية والسياسية الداخلية. ويدعونا هؤلاء الى إيجاد حل لها عبر التوصل الى عقد اجتماعي أو وطني داخل كل دولة وكيان. أي بناء على إرادة جامعة تقضي بضرورة الشراكة الحرة القائمة على المصالح المشتركة بين مكونات الداخل وفيما بين هذه الكيانات.
المستغرب في منطق الكيانيّين استسهالهم الساذج، أكاد أقول، لمعالجة المشاكل الاجتماعية على مستوى الكيان واستفظاعهم لها على المستوى العربي الموحّد. كأن المشكلة بنظرهم أسهل كلما صغرت المساحة السياسية، بينما الوقائع والتجارب المحلية والخارجية تشير دوما الى العكس. فكلما كبرت الوحدة السياسية كلما صارت ممكنات بناء الدولة أكبر وضاقت حدّة الصراعات التناحرية بين القوى الأهلية والتقليدية. فالتجربة اللبنانية بليغة في هذا المجال. واليوم صرنا نعرف أكثر عن التركيبة الاجتماعية الطائفية العراقية التي ليست وليدة الوحدة بل هي سابقة عليها، وإلا لانتفى وجود هذه الطائفية في البحرين مثلا حيث لم يكن لمشاريع الوحدة اي أثر يذكر، طبعا على صعيد السلطة.
ففي لبنان ليست مشاريع الوحدة هي التي انبتت الطائفية وليست هي من كبتتها كذلك إلا بالقدر الطبيعي الذي يرافق نشوء نزعة الدولة. إلا إذا كان هؤلاء الكيانيّون يستنكرون مشروع الدولة عندما تلجم هذيان البنى الاجتماعية المتقادمة والتقليدية. هذا التهميش هو تهميش مشروع عادة ومقبولٌ لأنه باتجاه التطور. لم تكن الوحدة إذن مسؤولة عن خلق الطائفية والطوائف في لبنان ولا تراجع هذه الوحدة كذلك مسؤولٌ عن خلقها. كل ما في الأمر ان هذه الطوائف كانت موجودة في لبنان على الأقل منذ القرن التاسع عشر لكن صراعاتها التناحرية خفتت كثيراُ لحساب مشروع الدولة العصرية الذي قام به الرئيس فؤاد شهاب مستفيداً بالطبع من أجواء المشاريع الوحدوية التي كان يقودها الرئيس العربي الأسبق جمال عبد الناصر.
غير أن تراجع المشروع الوحدوي العربي و تراجع مشروع الدولة العصرية اللبنانية بسببه انعكس تضخماً للقوى الطائفية وعودتها بالتالي الى أحجامها وأدوارها السابقة. فإذا كان للدرس اللبناني أن يفيدنا بشيء في هذا المجال فهو أنه كلما قويت الدولة المركزية ضعفت القوى الأهلية التقليدية المدمرة للإجتماع ، وكلما ضعفت الدولة المركزية قويت شوكة هذه البنى الاجتماعية التقليدية. وبالتالي فإذا صحت هذه القاعدة يصير من المبالغة تحميل مشاريع الوحدة والدولة العصرية المركزية، أثناء صعودها، ‘جريمة’ كبت البنى التقليدية، ثم تحميلها منهجياً، وأثناء إنحسارها، مسؤولية عودة هذه البنى الى تدمير دواخل الكيانات واحتلال المساحة المتروكة من قبل الدولة.
إضافة إلى ذلك فإن اصحاب النظرية الكيانية لا يقدمون لنا، لا على مستوى الكيانات ولا على المستوى الوحدوي العربي وحتى غيرالعربي، وصفة تعيننا على تجاوز إشكالية البنى التقليدية الإجتماعية المسيطرة على كامل المساحة السياسية الشعبية، غير التمنيات والرغبات ب ‘استنهاض القوى المدنية الحديثة’ التي يعلم الجمع ممن ضم مجلسنا انها لا تزن شيئاً بمواجهة القوى الطائفية في داخل هذه الكيانات.
لقد صار من شبه المؤكد أن القضاء على البنى الاجتماعية التقليدية العربية المدمرة للدولة لن يتم بدون توسيع المساحة الجغرافية والسياسية لكي يصبح من المستحيل عليها موضوعياً حتى إمكان الإدعاء بالتنكب لإدارة الدولة الواسعة والمعقدة. فلكل شكل اجتماعي طاقة قصوى لن يستطيع بعدها أن يدير الجهاز السياسي والاداري والاقتصادي للبلد وتعقد مهماته.
إلى هذا وذاك لا يمكن القول أيضاً أن من قاد المشاريع الوحدوية العربية قد فشل. لعلّ تجهيل الفاعل هنا ليس بريئا الى هذا الحد. فالفشل لم يكن بسبب قصور المشروع نفسه أو لا جدواه بل نتيجة الحرب التي شنتها عليه الدول المتضررة من قيام دولة مستقلة عربية ناهضة.
تحميل انحسار مشاريع الوحدة مشكلات التجزئة منهجية جديدة في العلوم السياسية تقدم الضحية جلادا، أما الجلاد الحقيقي فيختفي من الصورة كلياً.
القدس العربي