صفحات المستقبل

الوصول إلى حلب

عروة المقداد

المرة الأولى، منذ بداية الثورة، أسير دون رعب مصادفة حاجز. الحواجز التي أرعبت الملايين من السوريين، لتجعل من حياتهم اليومية جحيماً محفوفاً بشتّى أنواع الذل والقهر ومختلف أشكال الموت، أشنعها ينتهي في السجون والمعتقلات. لا حواجز للجيش النظامي أو الأمن. هنا المناطق المحرّرة، ووحده الطيران يقضّ مضجع السكينة التي تراودك وسط توالي سقوط القذائف. لكن سندويشة كباب من أحد اللحامين المنتشرين على طول الطريق كفيلة بأن تردّ لك روح السكينة والطمأنينة، مع ابتسامة وترحيب للمبيت خوفاً من القذائف المتوقّعة. الصاروخ الذي سينزل على بعد مئات من الأمتار لن يهزّ تلك السكينة التي بنيت من الابتسامات التي يوزّعها عليك المارّة عندما تسألهم من أين الطريق إلى حلب؟ تشعر أن كلّ ثقل الخوف والحقد والضغينة الذي أورثهم إياه النظام قد تلاشى.

السيارة تسير ببطء وبأضواء مطفأة. القمر ينير تلك السهول الواسعة، كل شيء يتكافل ليخلق اللحظة ويجعل من رحلة الدخول إلى حلب أشبه بالولوج إلى عالم سحري. لا ليست رحلة إلى عالم سحري إنما هي رحلة استرداد الذات. فالموقف هنا ليس زيارة صحافية سينتج عنها تقرير عابر أو فيلم فني. إنها عودة إلى وطن كان يتصدّع أمام أعيننا ويتهالك ونحن استمتنا في استعادته. تنتهي الرحلة بأن تمسك حفنة من التراب وتقبّلها كما تقبّل عشيقة عدت إليها بعد سفر طويل، لتجعل منك رومانسياً حالماً في أعين البعض. تماماً كما كان الخروج في الثورة قبل عامين شيئاً من الرومانسية والسذاجة.

حفلة الأعلام تستقبلك في التظاهرات التي تخرج في الأحياء الصامدة رغم الدمار. أعلام جبهة النصرة والثورة السورية وحتى العلم الكردي. تسمع الكثير من الخلافات حول من سيبسط سيطرته على حلب، لكن التظاهرة تقول لك: إن ثمة مكانا للجميع  في هذا البلد. من أقسى اليمين إلى أقسى اليسار. والجميع يتنافس لخطب ودّ الناس، يتجلّى ذلك واضحاً في أزمة الخبز والصراع الدائر حول من يؤمّن تلك السلعة للمناطق المحررة. المسألة محسوبة هنا. القوى جميعها تدرك أن الشرعي الوحيد هو من يؤمّن متطلبات الناس ويحفظ حياتهم وكرامتهم.

ثمة الكثير من الآراء التي تقول إن بعض الكتائب والقوى الموجودة في حلب مرتهنة لأجندات معينة، لكن العبارات المتشابهة التي تسمعها من الشبان المسلّحين على اختلافهم هي ذاتها: نريد العودة إلى منازلنا.. متابعة أعمالنا.. دراستنا. ستجد في صفوف التوحيد أو النصرة أو الحرّ العديد من الشباب المتعلمين. ليس لهم أي مستقبل عسكري. إذ أنهم يدركون أن لا مستقبل عسكرياً لهم وأن المكان الحقيقي لوجودهم هو الحراك المدني الذي تتنافس عليه قياداتهم الآن. هؤلاء الشبان هم من سيحسمون الصراع عندما سيعودون إلى منازلهم ويلقون السلاح إذ لن تجد أية جهة قدرة على جذب مسار الثورة أمام الرغبة الشديدة بالحياة التي يشعر بها هؤلاء الشبّان الذين كانوا وقودها.

الحياة مستمرة في أزقة حلب وشوارعها، دون اكتراث للطائرات التي تحوّلت إلى شيء زائد عن الحاجة. ثمة سبل كثيرة لاكتشاف الحياة وسط كل ذلك الجحيم الذي تحمله الصورة للوهلة الأولى. الأطفال وابتساماتهم التي يرمونها هنا وهناك وركضهم المستمر ومراقبتهم الطيران بكل تلك الدهشة تشعرك بأنّ كل شيء سيغدو على ما يرام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى