الوضع السوري سيرورة
نهلة الشهال
«موقف مختلف نوعياً لروسيا»، «هل يُعدّ لصفقة بين موسكو وواشنطن؟»، «طهران تتهيأ لمقايضة كبرى مع واشنطن»… ثم نقيضها: «روسيا تؤكد التزامها بالأسد»، «موسكو تفرض إطار التفاوض الدولي حول سورية»… أو تُطرَح جمل دراماتيكية، أشبه بنوطة الخاتمة في السمفونيات، وكان آخرها قبل أيام: «الأمم المتحدة تعلن أن سورية دخلت الحرب الاهلية».
تخرج هذه الجمل الرنانة الى العلن يومياً، مواكبة للموضوع السوري المتفجر، والذي ينتهي الجميع الى وصفه بـ «الغامض» تخلصاً من الحيرة ومن عبء مزيد من التمعن. وعلى مستوى آخر، تتناسل تقارير الخبراء، خصوصاً الاميركان (ربما لأن تقارير سواهم من روس او صينيين لا تصل الينا بالسهولة نفسها، أو ربما لوفرة معاهد البحث الأميركية وامتلاكها قدرات مالية كبيرة تضعها في تصرف باحثيها)، وهي تتلمس حجم المشكل وتقوم بدورها في نصح الادارة الأميركية وتوجيهها الى ما يجب القيام به، حيث يغلب على تلك المراكز طابع الـ «ثينك تانك»، المرتبطة بدورة اشتغال السياسة في بلدها، لذا تتخذ شكل الموقف الذي يتبلور بناء على معطيات.
هكذا دانيال بايبس نفسه الذي لم يُعرف عنه جنوح الى السلمية في السابق، والمشهور بصهيونيته بمقدار اسلاموفوبيته، يدعو الى «البقاء خارج المستنقع السوري»، مضيفاً عنواناً فرعياً يقول: «يخسر الغرب أكثر مما يربح بالتدخل».
ماذا إذاً؟ هل ما يجري غامض حقاً بمعنى عدم قابليته للفهم؟ هل يزعزع تصريح المسؤول الاممي مهمة المراقبين ويمهد للاعلان عن توقف مهمة أنان رسمياً فيما هي تُنعى كل يوم، فتُترك سورية الى مصيرها، ويعمل نظام بشار الأسد مزيداً من القصف للمدن والقرى ويتقاسم ارتكاب المجازر المباشرة (أقصد الذبح والاغتصاب) مع مجموعات الميليشيا المنفلتة من كل عقال، تلك المؤيدة له أو الاخرى المعارضة على حد سواء. أم ثمة حل يطبخ على نار هادئة وفي الكواليس، بإمارة المقترح الروسي لعقد مؤتمر دولي حول سورية تحضره إيران، كطرف معني بذاته أولاً، ويمكنه التأثير على حليفه السوري ثانياً. وهي صيغة تبدو أكثر توازناً بكثير من «مؤتمر اصدقاء سورية» ذي الصبغة الواحدة. فهذا، مهما اتسع، ومهما ارتفعت نبرته الكلامية، ومهما لوّح بالفصل السابع لتدابير مجلس الامن، يبقى جبهة حرب وليس إطاراً يتلمس حلاً.
ولكن هل من حل في الأفق؟ يبدو الوضع السوري ذاته- وليس الحل- موضوعاً على نار قد يكون من المخجل القول إنها هادئة بينما يموت الناس كل يوم بالعشرات. ولكن، رغم هذا الاعتبار يصح القول إن فتيلها ما زال طويلاً، بل لعله من غير المبالغة القول إنها في بداياتها!
في الموقف أولاً: حاول «الغرب» (بحسب تعبير بايبس) ان ينشىء «المجلس الوطني السوري» كإطار قيادي تتخذ القرارات باسمه باعتباره واجهة شرعية سورية. لم تنجح جهود النفخ فيه، لأسباب متعددة تتعلق بخصائص بنية الحركة السياسية السورية من جهة، وبقدرة النظام على الحفاظ على تماسكه من جهة ثانية. ولا بد هنا من اضافة اعتبار ثالث يخص بؤس ما انتهت اليه التجربة الليبية وفق ما نراه منها كل يوم، وهي التي، وإن قال الجميع «سورية غير ليبيا»، كانت مرشحة لتكون نموذجاً لولا مسار الاحتراب والتفكك العبثيين الذي اتخذته. يميل «الغرب» الى اعتماد «الجيش السوري الحر»، ولكن من دون يسر التعامل معه كمرجع يؤدي الاغراض التي كان يعوّل على المجلس توفيرها: غير مسيطر عليه بالكامل من الغرب نفسه، متشظ، مخترق بأشكال متعددة، يرتكب أو ترتكب باسمه فظاعات يندى لها الجبين الخ… غير لائق، ولا فعال، ولا مضمون له إذاً، وإن كان هناك اعتراف به أو إقرار باستخدامه كاسم مرجعي.
فإن كان الوضع الميداني في سورية ليس «حرباً أهلية» بالمعنى الحرفي للكلمة بل يتضمن عدداً من خصائصها (وهناك جدل شبه «أكاديمي» مدهش حول ذلك)، فالأكيد ان السلطة السورية فقدت السيطرة على أجزاء من البلاد، بما يتجاوز توصيف «البؤر»، وأن المدينتين الركيزتين، دمشق وحلب، أبدتا علامات تململ جدية. ويجعل ذلك فرضية عودة النظام الى السيطرة على البلاد، ولو أمعن في ممارسة ما يسميه «تطهير العصابات الارهابية»، اي الهجوم على مناطق وسحقها، أمراً غير محتمل.
من جهة ثانية، لم تحدث تشققات في هذا النظام تبيح افتراض إمكان انهياره، كما لم تُظهِر المعارضات قدرات سياسية أولاً وقبل كل شيء، أو ميدانية، يعتد بها في قلب موازين القوى. ولا يتعلق الامر بالتضحيات (وهي جسام، فقد أظهر المناضلون السوريون شجاعة وتصميماً فائقين، كما تحمل الناس كلفة فظيعة). وليس في الافق احتمال تدخل عسكري غربي أو إقليمي قاصم، وهو لو حدث، في لحظة غفلة، وعلى افتراض الجدل، سيضاعف الفوضى القائمة ويهدد بانفجار الوضع اقليمياً. ولا يملك الفصل السابع في هذا المجال اي فعالية.
في الاستنتاج ثانياً: تنزلق سورية الى الجحيم، انزلاق بطيء لكنه أكيد. ليس للجحيم قعر، لذا ليس فيه خط نهاية. يمكن إذاً تغليب فكرة أن هذا الانزلاق هو نفسه جحيم، يعمل معطلاً لمصالح البلاد والعباد ومتسبباً في تدهورها. هي سيرورة إذاً. ويمكن للنظام أن يديرها الى وقت طويل، ويمكن للمعارضات أن تشتغل ضمنها الى وقت طويل. ويمكن أن ينشأ اقتصاد سياسي لهذه السيرورة ذاتها، يعيش الناس في ظله و «يتأقلمون» معه. ولعل الجهود الدولية من كل الاطراف تتركز اليوم على ابطاء هذه الحركة بأكثر ما يمكن، فلا تفلت وتتشكل لها نتائج غير متوقعة، وكذلك تتركز على ضبطها بأكثر ما يمكن ضمن المجال الجغرافي السوري، فلا تتسبب في جر سواها معها الى هذا الآتون، في شكل تصعب أيضاً السيطرة عليه.
هي إذاً- حالياً على الأقل- إدارة للوضع، مؤداها اضعاف السلطة والمجتمع معاً وانهاكهما، ونتيجتها تعفن الحالة، مما قد يسهّل في مرحلة لاحقة التعامل معها. وإن كانت تلك الادارة ليست سكونية ولا دائرية، بل يعمل كل طرف في الاثناء على تثبيت مرتكزاته ويستعد لمرحلة لاحقة لم تظهر بعد معطياتها.
الحياة