الوضع الفلسطيني في سوريا تحت التشريح
علي بدوان
لم تترك الحياة اليومية لأبناء مخيم اليرموك الفلسطيني في سوريا بصماتها المعتادة على حياتهم اليومية فقط، بل تعدت ذلك لتَصنَعَ هذه الأيام نمطاً جديداً معاشاً في ظل واقع الأزمة العامة التي تمر بها سوريا منذ أكثر من عشرين شهراً انقضت.
وقد باتت فلسفة المخيم وأهله تتمحور حول الدور المنوط باللاجئين الفلسطينيين تجاه عموم إخوتهم السوريين في معمعان تلك الأزمة والمحنة التي تمر بها سوريا والشعب السوري عموماً، وفي الوقت ذاته الحفاظ على وجودهم والتخفيف من الأضرار المتوقع أن تلحق بهم جراء ما يجري، والحفاظ على اتجاه بوصلتهم الوطنية. فما الجديد في هذا الشأن؟
ستمائة شهيد والبوصلة الفلسطينية
من نافل القول إن الأزمة العامة في سوريا ألقت بظلالها الواسعة على عموم اللاجئين الفلسطينيين في سوريا الذين سقط منهم حتى تاريخه نحو أكثر من ستمائة شهيد، وقد باتوا يتحسسون كل يوم أوجاع تلك الأزمة ومآسيها من جوانبها المختلفة، والتي لم توقرهم انطلاقا من وجودهم في مجتمع انصهروا واندمجوا به على الرغم من خصوصيتهم الوطنية، ولم يكونوا في يومٍ من الأيام غُرباء عنه أو دُخلاء عليه، فُهم في نهاية المطاف نسيج واحد مع عموم أبناء المنطقة بالمعنى الاجتماعي السوسيولوجي والتاريخي، ففلسطين كانت على الدوام الإقليم الجنوبي من سوريا الطبيعية ومن تلك البلاد المسماة ببلاد الشام.
ولكن الجانب الآخر في الأمر، أن الخصوصية الوطنية الفلسطينية هي السائدة الآن، وستبقى كذلك تَطبعُ حال الفلسطينيين في سوريا رغم مضي أكثر من 64 عاماً من وجودهم فوق الأرض السورية في مجتمع امتزجوا بحياة الناس فيه في العمل والزواج المتبادل وحتى في الهموم الوطنية العامة، حيث شارك الشبان السوريون بفعالية كبيرة في مسيرة الثورة الفلسطينية المعاصرة بعموم فصائلها وقواها الفدائية، وقد سقط الآلاف منهم في ميدان العمل الوطني الفلسطيني منذ 1965.
إن انشداد الفلسطينيين لبوصلتهم الوطنية، والخصوصية الوطنية الفلسطينية لعموم الفلسطينيين في سوريا، لم يلغ دورهم الإيجابي إلى جانب الشعب السوري في أزمته الوطنية العامة، بل لعب فلسطينيو سوريا وخاصة فلسطينيي مخيم اليرموك دوراً هاماً وملموساً في المناطق المحيطة بالمخيم، وهي مناطق شعبية بسوريا مكتظة بالسكان، حيث وجد أهلها وسكانها ملاذاً آمناً وحضناً دافئاً بين إخوتهم الفلسطينيين من أبناء مخيم اليرموك الذي استقبل أعداداً من النازحين السوريين أكثر ما استقبلته تركيا والأردن وحتى عموم بلدان العالم مجتمعة.
فقد دخل إلى مخيم اليرموك نحو 600 ألف مواطن سوري على الأقل من أحياء دمشق الجنوبية (كأحياء التضامن، والعسالي، والقدم، ويلدا، والحجر الأسود، والقاعة، والميدان, وحي الزهور، وغيرها من الأحياء) خلال اشتداد الأزمة قبل ثلاثة شهور مضت، وقد وجدوا في اليرموك كل مقومات وسبل الحياة التي توفرت لهم على الفور بفضل جهود الناس وعموم المؤسسات والقوى المجتمعية الفلسطينية العاملة في مخيم اليرموك.
إن ما قام به فلسطينيو سوريا ومخيم اليرموك على وجه الخصوص تجاه إخوتهم السوريين لم يكن سوى ردٍ بسيط ومتواضع جداً جداً لجميل ووفاء كبير ومحبة وإخلاص أحاطت به سوريا وعموم السوريين الشعب الفلسطيني منذ عام النكبة 1948 عندما دخل إلى سوريا نحو 90 ألف لاجئ فلسطيني من شمال فلسطين من مناطق الجليل وعكا وحيفا وصفد والناصرة، والقليل منهم من يافا واللد والرملة ووسط فلسطين، فوجدوا في سوريا ملاذاً آمناً وحضناً دافئاً بانتظار العودة إلى فلسطين وطنهم الأزلي الذي لا وطن لهم سواه.
توافق في العنوان وخلاف في التفاصيل
في هذا السياق، نشبت تباينات فصائلية في البيت الفلسطيني في سوريا تجاه الدور الفلسطيني المطلوب، فقد تَبَنّت كل القوى الفلسطينية موقف الإجماع الوطني العام الذي يقول بخطوطه العريضة بضرورة “الحياد الإيجابي والنأي بالنفس” عن مفاعيل الأزمة الداخلية السورية، والتركيز على الدور الاجتماعي الإيجابي للفلسطينيين في سوريا تجاه عموم السوريين.
ولكن موقف الإجماع الوطني الفلسطيني إياه لم يستطع أن ينتقل بالقوى والفصائل الفلسطينية نحو خطوات أكثر تحديداً وملموسية تجاه بعض الأمور والمستجدات التي وقعت على الأرض، ومنها تعرض المخيمات والتجمعات الفلسطينية من حين لآخر لأعمال عنفية من المناطق المحيطة بها، ومن تساقط متقطع لقذائف الهاون (المورتر)، ووقوع اشتباكات ذهب ضحيتها المئات من الفلسطينيين.
فتضاربت، وما زالت متضاربة، مواقف عموم تلك القوى والفصائل تجاه التحديدات المطلوبة في برنامج العمل الوطني الفلسطيني، وقد انقسمت تلك المواقف بين أربعة اتجاهات:
1- اتجاه أول، يريد حماية المناطق الفلسطينية (مخيمات وتجمعات) عبر تشكيل لجان شعبية فلسطينية فدائية مسلحة تكون مهمتها حماية أمن المناطق الفلسطينية ومنع دخول قوى ما أصطلح عليه بـ”المسلحين” أو مجموعات “الجيش الحر” لتفادي وقوع صدامات بين تلك القوى وبين القوات السورية النظامية داخل المخيمات والتجمعات الفلسطينية، وهو ما يلحق الضرر بها وبسكانها (كما حدث في مخيم درعا الفلسطيني على سبيل المثال وقد لحقت به وبسكانه من المواطنين الفلسطينيين مصائب كبيرة)، وقد تزعمت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-القيادة العامة هذا الاتجاه ومعها غالبية فصائل “قوى التحالف الفلسطيني” المعروفة (القيادة العامة، ومنظمة الصاعقة، وحركة فتح/الانتفاضة، وجبهة التحرير الفلسطينية، وجبهة النضال الشعبي الفلسطيني، والحزب الشيوعي الفلسطيني). وبالفعل قامت الجبهة الشعبية-القيادة العامة بنشر لجان شعبية على شكل مجموعات فدائية مسلحة تتبع لها ومعها بعض القوى الفلسطينية وبعض الكوادر والأفراد المحسوبين سابقاً على فصائل من منظمة التحرير الفلسطينية، وقد باتت أمراً واقعاً في العديد من المخيمات الفلسطينية.
2- اتجاه ثان، يقول بضرورة تشكيل لجان شعبية فلسطينية من القوى الفصائلية ومن المستقلين، تكون مهامها اجتماعية وإنسانية ووطنية عامة محضة، لكن دون تسليح (نكرر القول دون تسليح) على الإطلاق، انطلاقا من رفض أصحاب هذا الاتجاه لما يسمى بـ”ظاهرة العسكرة” أو “التجييش” داخل التجمعات الفلسطينية، ومنها مخيم اليرموك، وهو المخيم الأكبر على الإطلاق. وقد نادى بهذا الموقف فصائل منظمة التحرير الفلسطينية (حركة فتح، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين/جورج حبش، والجناح الآخر من جبهة التحرير الفلسطينية، والجناح الآخر من جبهة النضال الشعبي الفلسطيني، وحزب الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني/حزب فدا، وحزب الشعب الفلسطيني..).
3- اتجاه ثالث، شكّل لجانه الاجتماعية والإنسانية وحده، واشتق لنفسه طريق العمل الإغاثي وغيره، وقد تشكل هذا الاتجاه من أعضاء وأنصار وأصدقاء حركتي حماس والجهاد الإسلامي، حيث برزت حركة الجهاد الإسلامي في هذا الميدان، وأبدعت في توزيع المعونات الغذائية وفي تقديم يد العون للجميع من المواطنين السوريين والفلسطينيين على حد سواء. وفي هذا السياق يشار إلى أن حركة الجهاد الإسلامي، التي اشتقت لنفسها الدور الإغاثي والاجتماعي، تَعاطفت بشكل أو بآخر مع مواقف الجبهة الشعبية-القيادة العامة بشأن ضرورة وجود لجان شعبية مسلحة لمنع دخول أي مسلح للتجمعات الفلسطينية حماية لتلك التجمعات من ردود الفعل، لكنها دعت في الوقت نفسه لتخفيف مضار وجود السلاح بين أيدي اللجان الشعبية عبر التوجيه والترشيد والاختيار المدروس لأعضائها.
4- اتجاه رابع، وهو ما يمكن أن نسميه بـ”اتجاه العاجزين”، وهو اتجاه لا يريد أن يَدفعَ فواتير العمل الميداني بين الناس بمعناها السياسي والمادي البحت، فضلاً عن قصوره وتواضع حضوره على الأرض “على الرغم من البعبعة الإعلامية المحلية التي يطلقها”، ويفضّل الموقف الانتظاري تجاه ما ستؤول إليه الأوضاع العامة في سوريا، وهو في حقيقة الأمر اتجاه “تعطيلي” بالنتيجة كما تشير مختلف مصادر فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وهذا الاتجاه وإن كان محدوداً لكنه يبقى مشاغباً على مساعي العمل المشترك من خلال رفضه كل الصيغ التي طرحتها معظم الفصائل والمستقلين وتقديمه الأعذار والمبررات غير المقبولة أو المُقنعة.
السعي لتوافق في العنوان والتفاصيل
ومع هذا، ومع توزع المواقف الفلسطينية، على الرغم من الإجماع على الموقف والعنوان العام المعنون بـ”الحياد الإيجابي والنأي بالنفس”، فإن الحراكات الفلسطينية في سوريا ما زالت ناشطة، حيث يسعى الاتجاه الأوسع بين الناس، وهو الاتجاه الشعبي الذي يَتَشكّل من المستقلين ومن الكوادر السابقة في العمل الوطني الفلسطيني ومن متقاعدي الفصائل الفلسطينية، لشق طريق جديد عنوانه ضرورة التوافق العام في التفاصيل وليس فقط في العنوان العام بين كل القوى دون استثناء (عددها خمسة عشر فصيلاً فلسطينياً عاملاً في الوسط الفلسطيني في سوريا)، مع تشكيل لجنة عليا من كل الفصائل ومعها عدد من المستقلين، وبناء موقف توافقي فيما يخص موضوع اللجان الشعبية وتحديد مهامها، والتخفيف من أضرار السلاح لدى بعض القوى.
وبالفعل عقدت سلسلة اجتماعات ولقاءات وطنية فلسطينية خلال الشهر الماضي وقبل عيد الأضحى المبارك بأيام قليلة، بحضور معظم القوى الفلسطينية وشخصيات وطنية مستقلة (وقد شارك كاتب هذه السطور في أغلب تلك اللقاءات الفلسطينية من موقعه ككاتب مستقل) والتي يفترض لها أن تستكمل عملها خلال الأيام القادمة، فالأزمة العامة في البلاد ما زالت مستمرة، وهناك حاجة ماسة وفعلية لبناء برنامج عمل وطني فلسطيني وسط كتلة سكانية فلسطينية في سوريا باتت تقدر بنحو 700 ألف مواطن فلسطيني -منهم نحو 510 آلاف نسمة من لاجئي العام 1948- الذين يطلق عليهم مسمى “فلسطينيين سوريين”.
الجزيرة نت