“الوطنية السورية” الواجبة… والمستحيلة/ رستم محمود
ثمة شبه تناقض في بنية الكيان السوري وموقعه منذ التأسيس. فسورية دولة صغيرة بمواردها الاقتصادية وحجمها السكاني والجغرافي، لكنها تشغل موقعاً سياسياً وجغرافياً حساساً للغاية، يشكل حلقة الوصل بين كيانات أضخم حجماً وأعمق تأثيراً على محصلة صراعات الهوية والسيطرة «الخالدة» في المنطقة. فطوال القرن العشرين شغلت سورية حيزاً يشابه مكانة دول البلقان اثناء الحرب العالمية الأولى، أو حالة سويسرا قبيل الحرب العالمية الثانية وأثناءها.
تحملت سورية وزر التصارع المصري – العراقي منذ الربع الثاني من القرن المنصرم، فالدولتان كانتا تدركان بعمق، بأن الهيمنة على سورية ستخول واحداً منهما احتكار شرعية «مناهضة» إسرائيل. تماهياً وتفاعلاً مع ذلك، نبتت في سورية موجات الأحزاب الإيديولوجية والانقلابات العسكرية، كانعكاس لتصارع هذين الكيانين على سورية. بالتقادم، ومع تراكم عائدات الثروة النفطية والصعود السياسي لدول الخليج العربي، فإن «الصراع» على سورية كان جوهر المزاحمة الناصرية – الخليجية طوال الخمسينات والستينات.
في السبعينات والثمانينات، لم يكن صعود الأسدية السياسية مقابل التيار المؤدلج من اليسار البعثي – تيار صلاح جديد – سوى أداة سياسية لخلق التوازن بين النفوذين السوفياتي والأميركي في المنطقة، توازن بين القطبين وحلفائهما الإقليميين. فالأسد كان حليفاً للسوفيات، لكنه كان ينفذ كل ما تطلب الولايات المتحدة منه، كما عبر وزير الخارجية الروسي السابق يفغيني بريماكوف.
كذلك استمر الأمر، حينما وازن الأسد الأب في العقد الأخير من حكمه بين النفوذين الإيراني والسعودي، بعــد الخروج الطبيعي لمصر والعــراق من معادلات المنطقة، وكذلك عزلة تركيا الإرادية. لكن، مع تعاظم الدور الإيراني بُعيد احتلال العراق، فإن الأسد الأبن حاول إدخال تركيا لعبة التوازن السورية، بغية حفظ دور سورية في التوازنات السياسية.
راهناً، يبدو كل ذلك التشكل الجيوسياسي المعقد، دافعاً الى تعقيد المسألة السورية وتصعيب حسابات الفرقاء الإقليميين «الكبار»، ومن خلفهم القوى الدولية الكبرى. إذ يسود الاعتقاد بأن الهيمنة السياسية على سورية، ستعزز من مكانة هذا الطرف الإقليمي أو ذاك، وستحوله الى لاعب يملك إداة للتحكم بمختلف الملفات الحساسة في المنطقة، المسألتان الفلسطينية والكردية، «التصارع» الشيعي السُني، الهيمنة على الكيان اللبناني الحساس في منطقة الشرق الأوسط.
حياد ايجابي
لثلاثة اسباب جوهرية، لا يمكن السيّر في سياق آخر، قائم على جوهر «الوطنية السورية» وحيادها الإيجابي تجاه القضايا والقوى الإقليمية والدولية التي تتجاوز حدود قدرتها ومصالحها الوطنية المحددة للغاية. بعبارة أخرى، يصعب رسم «أمن قومي» ومصالح استراتيجية سورية خارج حسابات الكيانات الإقليمية الأكبر حجماً وقدرة. ذلك ان الحياد هو الجوهر الموضوعي للأمن القومي للكيانات الأصغر حجماً تقليدياً، لئلا تغرق في الصراعات التي تتجاوزها حجماً وقدرة.
يقف على رأس هذه الموانع، تفتت النخبة والمجتمع السياسي السوري. فـ «العصبية» الوطنية السورية، هي الأضعف مقابل النزعات السياسية الأخرى التي تجذب تيارات واسعة من المجتمع السوري. فغالبية مطلقة من هذه النُخب تعتبر نفسها مندوبة وموالية لكيان إقليمي أو آخر في المسألة السورية. يقف النظام السوري في جوهر هذا التفتت الوطني، حينما يسلك درب المندوب الإيراني في المسألة السورية، فممارسات النظام وخطابه وسلوكه العنيف تجاه المجتمع السوري غير الموالي له، يشير بوضوح إلى إن مسعاه الجوهري كامن في الحفاظ على الهيمنة الإيرانية في البلاد، بشكل يفوق حتى «المصالح» الضيقة لأي نظام سياسي يريد أن يحافظ على شعرة معاوية مع المجتمع الذي يريد أن يبقى حاكمه.
زاد الحجم الهائل من العنف بين الجماعات الأهلية السورية من صعوبة اجتراح شكل من «الوطنية» السورية. فمنذ بدء الثورة، وبتصاعد العنف المحض الذي بدأه النظام، باتت الجماعات الأهلية السورية تستشعر نفسها كجماعات وهويات سياسية عابرة للكيان، وتتخيل نفسها أقرب الى أنظمة ومجتمعات خارج بلادها، أكثر مما تستشعر قرباً وتماهياً مع المجتمعات المحلية ضمن الكيان السوري. لذا فإن النُخب السياسية لا تتعرض لأي ضغط من قواعدها، حينما تنجرف عن سياق «الوطنية» السورية.
السبب الآخر كامن في طبيعة الكيانات والقوى الإقليمية المحيطة بسورية، فكلها تفتقد الدرجة الدنيا من الشرعية الداخلية، لذا فإنها تسعى الى مد خطوط سيطرتها الخارجية على الكيانات الأصغر حجماً، لتستخدمها في معادلات «أمنها الذاتي». شيء شبيه تمــاماً بما كان نظام حافظ الأسد قد فعله طوال عقود، حين كانت كل سياسته تتمحور حول السيطرة على الكيان اللبناني والقوى الفلسطينية والحركات المتمردة في المنطقة.
أي أن مسألة «الحياد» غير متوقفة على الإرادة السياسية للسوريين فحسب، بل ثمة ما يتجاوز طاقتهم المحدودة في ذلك المنحى. فسورية الكيان والموقع والمجتمع، هي جزء من مجالات الأمن الحيوية لقوى إقليمية أكبر حجماً. ولا يمكن فك هذا الوله الإقليمي بالكيان السوري، قبل أن تستحوذ هذه الكيانات على حيز مناسب من الشرعية داخل كياناتها، أي قبل ان تغدو دولاً وأنظمة ديموقراطية. فسورية سوف تتحمل من جيرانها مستقبلاً، كل ما تحمل لبنان من وزر النظام السوري المستبد.
عالم بلا كبار
على أن أهم مدخل لتعثر «الحياد السوري» تجاه هذه الصراعات العميقة في منطقة الشرق الأوسط، يرتبط بهذا الشكل المعقد من ترتيب العلاقات الدولية في منطقة الشرق الأوسط. فالانسحاب السياسي للولايات المتحدة من ملفات المنطقة، وضعف الكيانات الأوروبية في فرض خياراتها السياسية، ونمو النفوذ الروسي الذي لا يغري سوى بسلوكه الأرعن في استخدام القوة المحضة. كل ذلك يشل من قدرة أي طرف دولي على فرض خيارات فوقية على القوى الإقليمية، لحماية الكيانات الأصغر. وهو سلوك تقليدي استمر طوال القرن العشرين، فالدول الصغيرة في منطقتنا، كانت محمية وفق معادلات واستراتيجيات دولية مضبوطة، لا يمكن هذه القوى الإقليمية تجاوزها بسهولة. وهو لم يعد متوافراً في راهن المعادلة الدولية في منطقة الشرق الأوسط.
سيمضي السوريون أوقاتاً عصيبة، قبل أن تتحسن شروط المناخات المحيطة ببلادهم، فسورية كيان سياسي بالغ التركيب والاصطناع، يجب أن يحوّله السوريون الى «وطن»، وليس لهم خيار سوى ذلك.
* كاتب سوري
الحياة