الوطنية السورية تحت القصف/ راتب شعبو
ليس من البساطة اليوم معرفة موقف السوريين من الغارات الإسرائيلية، المتكررة على مواقع عسكرية سورية. يجب أن نقول «على مواقع عسكرية للنظام السوري«، ذلك أن الدولة السورية تحولت إلى طرف في صراع معقد داخل سوريا، بعد أن أصبحت أداة في يد السلطة، التي مارست في مواجهة الثورة السورية أقذر ما يمكن أن يتخيله عقل. الصعوبة نفسها واجهها السوريون في تحديد موقف حين برزت «جبهة النصرة» ومن ثم «داعش» كقوة تواجه النظام وتتحداه وتهزمه. أحد مستخدمي الفيسبوك السوريين علق ساخراً على الهجوم الإسرائيلي الأخير على مواقع عسكرية تابعة للنظام السوري، فكتب: «يا أمي، العدو الإسرائيلي يقصف العدو السوري». ومن السخرية ما يقتحم لب المسألة.
ليس بديهياً أن يهب السوري اليوم وقد مُست كرامته الوطنية أمام القصف الإسرائيلي. كرامة المواطن السوري تمرغت في الوحل على يد النظام الذي تقصف إسرائيل مواقع له. ببساطة، كثير من السوريين لم يعودوا يشعرون إن هذه الدولة دولتهم أو أن هذا الجيش جيشهم قبل أن يجري تحريرهما من يد سلطة تستعمرهما وتستعمر المجتمع بهما. من المؤكد أن السوري لن ينظر إلى إسرائيل في يوم من الأيام بأنها صديق طالما أنها دولة مغتصبة في هذه المنطقة، طال الزمان أم قصر. ولكن من المؤكد أن النظام الديكتاتوري الفاسد الذي غرّب المواطن عن دولته، وجعل من الدولة أداة خاصة في يد أهل السلطة ضد المجتمع، يجعل من الدولة عدواً للمواطن ويجعل المواطن قليل الحساسية «الوطنية» تجاه الأعداء الخارجيين لهذه الدولة. ليس غريباً أن نجد المواطن السوري لامبالياً حيال الضربات الإسرائيلية. سبق أن صمت الشارع السوري، إن لم نقل رحب، بالقصف الأميركي لمناطق سورية تتحرك فيها «داعش». وسبق أن انتظر الكثير من السوريين، بأمل، الضربة الأميركية التي لم تنفذ ضد مواقع النظام السوري عقب استخدام هذا الأخير للأسلحة الكيماوية على مناطق تتواجد فيها قوات للمعارضة السورية. يمكن تصور المنطق الذي يحكم موقف السوريين من هذه التدخلات الخارجية كما يلي: أردنا تغيير هذا النظام فاستخدم في وجهنا قوة لا ترحم، واستهدف المسالم والعلماني قبل المسلح والطائفي، وعمل على حرق الأرض تحت أقدام الجميع. لم يتوان عن تدمير أحياء بكاملها، لم يتوان عن استخدام أسلحة ثقيلة وأسلحة محرمة ضد مدنيين، عهده في استخدام القوة كعلاج لكل مطلب سياسي شعبي. إذا كانت هذه القوة الخارجية «القذرة» قادرة على شل قدرة هذا النظام فلا بأس، على مبدأ «اللهم اضرب الظالمين بالظالمين».
يتقاطع القصف الأميركي مع القصف الإسرائيلي في أنه اختراق للسيادة الوطنية، فكلاهما لا يستأذن «الدولة الوطنية» كي ينفذ مهامه القتالية أو الاستطلاعية داخل الأراضي السورية. لكن للطيران الأميركي مقبولية أكبر باعتبار أن أميركا هي سيدة العالم اليوم وللسيد أن يتجاوز الحدود. كما أن أميركا تستهدف «داعش» التي هي عدو معلن للجميع، فضلاً عن أن أميركا لا تحتل أرضاً عربية بصورة مباشرة كما هو حال إسرائيل.
ما سبق يهيء لملاحظة رد فعل شعبي أقوى ضد الغارات الإسرائيلية قياساً على الغارات الأميركية، ومع ذلك فإن الارتكاس الشعبي على الغارات الإسرائيلية شبه معدوم. أما رد فعل النظام فهو محصور بين عدم إزعاج إسرائيل إلى الحد الذي يدفعها لتحطيم جيشه، وبين رغبته في أن يحشر السوريين في زاوية «اللاوطنية» باعتبار أنهم لا يلتفون حول «الدولة الوطنية» التي تضربها إسرائيل. يريد النظام أن يستخدم إسرائيل كما يستخدم «داعش». يريد أن يظهر على أنه ضحية قوتين لهما في الوعي العام السوري أسوأ انطباع وتقدير لكي يغطي على إجرامه بحق الشعب السوري. لا شك أن إسرائيل لا تخضع لمخططات النظام، وأنها تنفذ ما تمليه عليها مصلحتها. ففي إسرائيل تستمد السلطة التنفيذية مشروعيتها من مدى قدرتها على خدمة إسرائيل، أما في سوريا فإن البلد (سوريا) يستمد مشروعيته من مدى قدرته على خدمة السلطة. وحين تقصّر سوريا في تقديم الولاء والخدمة للسلطة يمكن لهذه أن تحيلها إلى يباب وتفقدها «مشروعيتها» كوطن. غير أن النظام العاجز عن الرد على إسرائيل (لعدم توفر المكان والزمان المناسبين!)، يستثمر هذه الغارات بتوظيفها سياسياً كدعم إسرائيلي للمعارضة السورية المسلحة «لرفع المعنويات»، ويستثمرها في استنهاض الغريزة الوطنية للجم الميول المعارضة للنظام. الموجه العام لكل الاستثمارات هو تحقيق ديمومة السلطة وليذهب كل ما سوى ذلك إلى الجحيم، بما في ذلك الصواريخ «س300«. لا نستغرب حين نقرأ على الفيسبوك من يقول إن هذه الغارات تتم بتنسيق مع «الأسد». يكفي المرء أن يلاحظ أن الأسد لا يرد من جهة، وأنه يستثمر هذه الغارات في حربه ضد المجتمع السوري، لكي يكتب تعليقاً كهذا.
التحول الذي أراده السوريون بسيط، ولكنه أساس أي تغيير لاحق، وهو أن تتحول الأولوية من السلطة السياسية إلى البلد، أن تكون مصلحة البلد أبدى من مصلحة السلطة، وأن تُرى صلاحية السلطة من منظور خدمتها للبلد. كل الدمار والدماء السورية والتشريد والعذاب اللامنتهي كان على هذا الطريق. وكل «ممانعة» النظام كانت لإغلاق هذا الطريق. السلطة السورية استبدت حتى باتت عاجزة عن رؤية أي مصلحة داخلية أو وطنية تتفوق على مصلحتها الخاصة. وكلما طال طريق «الممانعة» هذا فرغ أكثر خزان «الوطنية» السورية.