صفحات العالم

الوطنية السورية على المحك


سليمان تقي الدين

أسّرت شخصية دبلوماسية عربية مطلعة من بلد غير متورط في الأزمة السورية بما يلي:

إن الغرب مقتنع بوجود قوى متطرفة ومسلحة وبتوافد هذه القوى من بلدان عدة وهي قادرة على تهديد الأمن والاستقرار في المنطقة . لذا يريد الغرب أن يعطي النظام فرصة لمواجهة هذه القوى وضربها وهو بذلك يحقق هدفين: إزالة هذا الخطر وإغراق النظام في أزمة يسهل لاحقاً إيجاد حلول لها .

ويراهن الغرب على فاعلية الحصار والعقوبات على سوريا وإيران لتوسيع شعبية المعارضة في هذين البلدين بعد شلّ قدراتهما على المبادرة في المستوى الإقليمي .

إذا صح هذا الكلام فهو يفسّر إلى حد بعيد اندفاعة النظام في خطة الحسم العسكري مع ما يطلق عليها “المجموعات الإرهابية المسلحة” مطمئناً إلى أنه يخاطب مصالح هذا الغرب، ويفسر كيف كان الغرب يستثمر على هذه الأزمة إضعافاً لشرعية النظام وهيبته السياسية والأمنية .

ويتابع الدبلوماسي: “يعرف الغرب أن إيران “وحزب الله” وآخرين تورطوا فعلياً في الأزمة، وهم بذلك يخسرون على المستويين المادي والمعنوي، والحصيلة أن الروس والصينيين يستفيدون مع الغرب على حساب شعوب المنطقة” .

يمكن الاستنتاج أن الصراع على سوريا قد نجح في تطويعها إلى الحد الذي يجعلها كياناً منطوياً على ذاته ومشكلاته بعد أن كانت لاعباً مؤثراً في الدائرة الاقليمية . أما مسألة التغيير فقد تهيّأت لها البيئة الداخلية عبر التعددية السياسية الواقعية التي ظهرت في الحراك الشعبي وأطلقت كل القوى السياسية الكامنة من عقالها . يستطيع النظام كما المعارضة أن يتحدثا عن الربح والخسارة، لكن الملف السوري لم يغلق ولن يغلق في المدى المنظور لا بتفاعلاته الدولية ولا الداخلية وحريّ بالسوريين أنفسهم أن يقوموا بالمراجعة الموضوعية بحثاً عن حل سياسي داخلي حتى لا تتحول مبادرة الأمم المتحدة والجامعة العربية وموفدهما كوفي عنان إلى ادارة خارجية للأزمة تذكّر بالموفدين العرب والدوليين إلى لبنان .

يعتقد النظام أن لديه الفرصة لاستعادة الشرعية، وتعتقد المعارضة أن الوساطة الخارجية تمنحها بعض الحماية . هذا التفكير هو أسوأ أشكال إدارة الأزمات . إذا لم يقتنع أطراف النزاع الداخلي بمبدأ التسوية على اساس موازين القوى بمعزل عن رهانات الخارج فهم يتحولون إلى أدوات يتم استنزافها في الصراعات الكبرى، وتتضاءل مكاسبها في كل يوم يمر من دون استقرار . لن يكون التغيير في سوريا أكثر عمقاً وأبعد مدى من النماذج العربية شبه المكتملة حتى الآن . الإنجاز الأكبر لكل هذا المخاض هو الحريات السياسية التي تتيح للشعوب أن تعبر عن طموحاتها خارج سلطة الإكراه . هذا المتغير الديمقراطي المحدود هو المرحلة الأولى من مشروع التغيير الذي يحتاج إلى أحزاب تتوافر لها جميع المقومات والعناصر .

لا ننطلق من خيبة كثيرين إزاء محاولة الإسلاميين مصادرة “الربيع العربي” أو الهيمنة على السلطة . على الأقل لم تحسم معركة الدساتير العربية بما هي نصوص قانونية لهوية الدولة أو بما هي ميزان بين القوى .

ليست الدساتير وحدها ما يؤطر الحياة الوطنية إلا إلى حد ما في الأنظمة الشمولية . في الدساتير العربية هناك قيود وهناك حريات لكنها لم تمارس لأن الحياة السياسية كانت معطلة، ولأن السلطة الفعلية كانت خارج الهياكل الدستورية . هذا الجدل الدائر الآن في مصر وتونس واليمن وليبيا وسوريا بين السياسي والديني وعلاقتهما على مستوى الدولة والنظام لا تحسمه المجادلات الفقهية بل موازين القوى . لن تكون النصوص حامية للحريات إذا لم يستنهض المجتمع حضوره وثقافته الضامنة لهذه الحريات . هذه قضية مفتوحة في كل الدول العربية لم تحسم ولن تحسم في وقت قريب .

في أغلب الأحوال جاءت المواقف السياسية من معركة التغيير محكومة بمصالح قوى في الداخل والخارج كما في نموذج المواقف اللبنانية من الأزمة السورية .

في الثقافة السياسية السائدة لا تتوافر رؤى متكاملة لمشروع الدولة . سياسة ال”مع والضد” نتجت عن حسابات ظرفية سلطوية لا دولتية .

ليس أدل على ذلك من اشتباك “الإسلام السياسي” مع “الإسلام السياسي” . الأقليات أو القوى الليبرالية تموضعت في مواقع سياسية مرتبطة بنزاعات سابقة لا علاقة لها بقيم “الثورة” ومعاني الثورة وأهدافها وآفاقها .

ولا الآخرين تموضعوا حيث يتوقع حرصاً على المصالح العربية الكبرى . ويؤكد ذلك عدم وجوب تصديق الشعارات أو البيانات ولا حتى الأفكار بمعزل عن حركة الواقع . ما هو ذو مصداقية لا الدول ولا القوى المتصدرة لمواجهة الصراع بل الجمهور الذي يحمل أعباء الأزمة ويضحي وهو يثق بأنه يسعى إلى مجتمع أفضل . وليس أسوأ من تصدير المواقف اللبنانية إلى سوريا .

ليست سوريا براء من المشكلة الطائفية، لكن إسقاط نوازع اللبنانيين وتجاربهم وثقافتهم عليها يضاعف من تفاقمها في البلدين . لا نعرف بالضبط أين تستقر الأزمة السورية لكننا نعرف أن اللبنانيين الذين يخوضون في وهم المشاركة أبعد من حدودهم يحفرون في خنادق الانقسام اللبناني، وهم أعجز من أن يجدوا حلولاً لمشاكل بلدهم الكبيرة والصغيرة .

هناك واقعة جديدة متنامية في العالم العربي تكمن في تمركز الهموم السياسية على وطنية كل بلد وشعب . ربما كانت سوريا آخر موقع يحاول إنجاز وطنيته بنظامه ومعارضته . أدار النظام سوريا منذ زمن على مصالحه، وتدير المعارضة معركتها على مشروع سوري داخلي يتخفف من كل الأعباء القومية . فلا عروبة النظام عادة تصرف سياسة قومية ولا إسلامية المعارضة تدخل في باب توحيد هوية المنطقة وتساعد على تعاونها وتكاملها .

إن المنطقة تشهد إعادة تأسيس لروابطها الاقليمية كما لانظمتها ووحدة شعوبها . ولن يكون ممكناً للغرب وحده ولا للقوى الدولية المعارضة ان يصوغوا وحدهم أنظمتها الداخلية . كما لن يكون في مقدور الحركات الوطنية الغارقة في مشاكلها الداخلية أن تملي إرادتها على المستوى الإقليمي .

ما زلنا في بداية الطريق والكثير من المقاعد شاغرة كما في العراق، وما زالت القوى الصاعدة إلى السلطة أو في معارضتها تختبر مشاريعها وبرامجها في مشهد من التعددية والتنوع والنزاع . سوريا تبحث اليوم عن حل وطني داخلي مفقود، ولبنان عليه أن يجد حلّه الداخلي كما هو شأن كل الدول العربية .

الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى