الوطن بين الهوية والتجربة/ رشيد بوطيب
ليس لي سوى وطن واحد، لكنه ليس وطني. جملة كان يمكن أن يقولها جاك دريدا، هو الذي قال ما يشبهها عن اللغة، في كتابه «أحادية لغة الآخر»، والذي خصصه لقراءة كتاب عبدالكبير الخطيبي «حب بلسانين»، ومن خلال ذلك، للتأمل في هويته الفرانكو – مغاربية.
لكن تأملاتي هنا، لن تكون حول اللغة، ولا حتى حول اللغة كوطن، بل حول الوطن، وحول مفهومين للوطن، مفهوم نتوارثه جيلاً بعد جيل، من دون حتى أن نفكر يوماً بالتفكير بهذا الإرث ولربما إعادة النظر به: إنه ما أسميه الوطن كهوية، ومفهوم ثان اصطلح عليه فيلسوف ألماني في مراسلات جمعتنا حول الجوار: الوطن كتجربة، والذي قد يكون من تلك النعم القليلة للغربة والتغرب.
قد لا أغالي إذا قلت بأن الغريب هو من لا إرث له، فحتى من ناحية مادية بحتة، فإن من يرث لا يتغرب، أو أن التغرب ينفتح على احتمالات متعددة، ولا ينحبس في إرث معين. وحتى أكون أكثر وضوحاً: ستكتب الصحيفة التي ستنشر هذا المقال في أسفله، تعريفاً بي، أنني كاتب مغربي. هل أملك أن أحتج على ذلك؟ طبعاً لا. ولكنني إذا طلبت أن أكون موضوعياً، فلا يمكنني أن أقول عن نفسي بأني مغربي. أجل إن المغرب جزء مني، وجزء من ذاكرتي الثقافية، وسيرتي الذاتية، وخيالاتي وأحلامي، ولكنه لا يمثل إلا جزءاً من الوطن الذي أسكنه، وإلا تجربة من تجارب متعددة، وبلغة أخرى، ليس لي سوى وطن واحد، لكنه ليس وطني. إن هذا يدفعني إلى التفكير في مفهوم جديد للانتماء وللتساؤل في سياق ذلك: لماذا نشعر بانتماء أكبر إلى مجتمعات ديموقراطية وليس إلى مجتمعات ثيوقراطية أو غير ديموقراطية، حتى ولو كنا نتحدر منها؟ إن الحنين إلى البلد الأصل، لا يعني بالضرورة الرغبة في الانتماء إليه. إن الحنين منطق غير عقلاني، واستراتيجية من لا حول له ولا قوة، وهو في النهاية لا يكفي لكي نعيش حياة كريمة، ونبني مجتمعا حراً. وقد يكون الحنين هنا مجرد مرادف للوهم. إن الوطن ذاته قد يكون مجرد ضرورة… إذا لم نستطع منه مهرباً. أو لربما لم يخلق الوطن إلا لنغادره.
ما الذي يعنيه الوطن اليوم للاجئ سوري فقد كل شيء، أهله وبيته؟ مجرد ذكرى سيئة في أحسن الأحوال. لكن دعوني أعُد إلى مفهوم الوطن كتجربة، وبالضبط إلى مفهوم التجربة، والتي أستعملها هنا في مقابل الهوية. تشترط التجربة لا ريب بعد اللقاء، تشترط أيضاً نوعاً ما من العيش المشترك وهي لا ريب نوع من «الخروج من الذات» إذا أردنا استعمال مفهوم مركزي لدى ليفيناس. إن هذا الخروج يتضمن بالضرورة تجربة للآخر، ولا يعمد إلى تكوينه كما يفعل الوعي. فالتجربة لا تفرض معنى، بل هي بحث مشترك عنه، هو معنى لا أملكه لوحدي أو أدعي امتلاكه، فهو يتحقق خارج «العندية» ومنطقها، أو لا يتحقق. إنه معنى يتضمن أكثر من معنى، وقد يقول ليفيناس، أنه شيء مغاير للتفكير، أو ما وراء التفكير كما عهدناه في الفلسفة الحديثة. وهو يتضمن أيضاً ما هو أكثر من الاعتراف، لأن التجربة أكبر من أن نختزلها في معرفة، لربما تمثل التجربة هنا المعرفة الأصلية السابقة على كل معرفة، والتي قد تقول في هذا السياق ما مفاده أن اللقاء بالآخر، إرث يأتينا من المستقبل، ووطن لا نعيشه إلا في صيغة الجمع.
* كاتب مغربي
الحياة