صفحات الرأي

الوعود المنشئة لتاريخ الأفكار ومآلاتها/ إبراهيم غرايبة

 

 

في تاريخ الأفكار وتطورها وتحولاتها يُلاحَظ أنها تتقدم باتجاه مزيد من الازدهار والتحسين في المعرفة والحياة عندما تكون مرتبطة بهدف عملي واضح، وتمعن في الخراب والإضرار عندما ترتبط بأهداف ووعود غيبية أو مثالية غير واقعية أو لا تحتملها الفكرة المنشئة حتى لو كانت هذه الوعود نبيلة. وعلى سبيل المثال، نشأت أعمال السحر والشعوذة في علم الكيمياء ودراسة الطبيعة، ولكن وعود الحصول على الذهب والثراء بمعالجة وفهم خواص المادة المتاحة جعلها تؤول في مرحلة من اليأس إلى الغيب والطلاسم، وبدأت قراءة الأبراج في علم الفلك والحياة ولكن أحلام توظيف العلم في معرفة الغيب والمستقبل جعلها تنفصل عن العلم لتمضي إلى الغموض والدجل. وفي المقابل فإن الطب بدأ استعانة بالغيب والطقوس والرموز لأجل الشفاء من المرض، وقد جعلها هذا الهدف الواقعي النبيل تتغير في سرعة إلى علوم ومهارات وصناعات متقدمة. وربما يمكن أيضاً تطبيق القاعدة وملاحظتها في الأفكار والتجارب السياسية والاجتماعية كما يمكن الاستعانة بها في تحليل الوقائع واستشراف المستقبل وتقديره، فالأفكار والاتجاهات تمنح مؤشراً يستدل به على نبلها وصلاحيتها للعمل السليم المنتج أو العكس في مدى قدرتها على تصور مشكلات محددة وأفكار عملية واضحة تبين الفرق بين الواقع القائم والهدف الممكن والواجب تحقيقه.

هكذا يمكن الملاحظة كيف تؤول جماعات الإسلام السياسي والاقتصادي إلى تجمعات منفصلة عن الواقع أو مشروعات اقتصادية واجتماعية هي أقرب إلى الوهم والنصب والاحتيال، لأنها ببساطة أرادت بناء وتقديم وعود كبرى وهائلة مستمدة من التزامات ومعارف دينية محدودة أو عامة، واستثمرت في هذا الربط بين الازدهار والانتصار وبين أفكار وتطبيقات لا يمكن الربط بينها بواقعية ووضوح، ولم يكن ثمة ما يقال أو يقدم سوى وعود غيبية مغرية توافق أحلاماً ورغبات نرجسية، ولأنها كذلك فلم يكن ممكناً إثبات خطئها أو أن تشكل إحباطاً لدى أصحابها بسبب عدم تحقق الوعود، فالإحباط تنشئه الأحلام الواقعية عندما لا تتحقق، ولكن الأحلام غير الممكنة أو غير الملموسة تظل وعداً أبدياً تمنح الأمل على نحو دائم لا يتوقف، ولا تتعرض للمراجعة أو الاختبار طالما ظلت تغذيها مشاعر ورغبات لا يريد أصحابها التخلي عنها.

اليوم يبدو أن وعود الأسلمة في السياسة والبنوك والتعليم والإعلام والطب والتنمية والإصلاح تؤول إلى فشل وشعوذة وأوهام ونصب واحتيال وثروات غير مشروعة، ومؤسسات وجماعات ونخب تراهن على نزعة الناس إلى الوعود الكبرى غير الممكنة وإعراضها عن الأولويات والمطالب الواقعية. لكنها على رغم ذلك تحولت إلى واقع صلب متماسك، تتشكل حوله مصالح وقواعد اجتماعية وهويات متخيلة، والحال أن الهويات والجماعات لم تكن في يوم من الأيام إلا متخيلة، واكتسبت أيضاً الصلابة والديمومة نفسها أعمال السحر والشعوذة وقراءة الأبراج، … وكذا مشروعات التحرير والازدهار التي تديرها نخب أوليغارشية فاشلة ومستبدة، لكنها قادرة على صناعة وتقديم الوهم. المصالح النخبوية والأوهام المجتمعية قادرتان على الدوام على بناء تحالف ناجح في مواجهة القسوة والملل في مقولات التنمية والحريات، فالمجتمعات تفضل أن تعفي نفسها من المسؤولية والشراكة، معولة على وعود كبرى بلا حدود لا يتردد في إطلاقها القادة السياسيون والدينيون، وللسبب نفسه تستقطب أعمال القمار واليانصيب ومشروعات اقتصادية وهمية في الأسهم والبورصات أو مشروعات على الورق وفي الفوتوشوب أموال الناس ومدخراتهم، مقابل إعراض عن مشروعات حقيقية تحسن حياتهم ومواردهم، فوعود الربح الكبير والسريع يكفيها باحتمال النجاح بنسبة ضئيلة جداً كي تتفوق على وعود واقعية مصحوبة بالعمل والجهد والانتظار.

* كاتب أردني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى