الوقائع إذ تطيح الفن
يوسف بزي
حين نتابع تلك الصور المهرّبة إلى خارج سوريا، الآتية من قلب التظاهرات، فإن أول ما نبحث عنه فيها هو الجديد المبتكر من الشعارات، نحن الذين بتنا مأخوذين ببراعتها وقدرتها على مفاجأتنا في كل مرة. وهم أيضاً، أصحاب تلك اليافطات والكتابات والهتافات، ما زالوا مواظبين على ما ابتدأوا به منذ الأيام الأولى للثورة، طالما أنهم وجدوا في ذلك جدوى تعبوية وسياسية، بقدر ما وجدوا فيه أيضاً تعبيراً صارخاً عما كان مكبوتاً فيهم من قدرات “ثقافية” وفنية. بل إنهم، وإذ عرفوا أثر ما يبتدعونه على أنفسهم وعلينا نحن، وفعاليته بوجه السلطة، جعلوا من ابتكار الشعارات والأغاني بمثابة الفعل الثوري الأول والأبرز. فهم مثلاً حين يرفعون شعار “أنا سوري، إذاً أنا موجود.. عفواً ديكارت” فإنهم بمعنى آخر يوازون بين فن القول والكينونة نفسها، ويبتعدون في شعارهم هذا عن الوظيفة المباشرة للشعار السياسي، إلى سوية السجال الفلسفي. وأحياناً كثيرة، يبتعد الشعار عن أي وظيفة ليكون أقرب إلى الترفيه الفني وعلى سبيل بث الدعابة وروح المرح، أو من أجل لذة شعرية، أو لتوليف مناخ مسرحي – درامي في شارع التظاهرات.
والحال، أن الثورة في سوريا، والثورات العربية بدرجات متفاوتة، حفلت بحضور الفن فيها، شريكاً وصانعاً. لكن، ما يجب تمييزه هنا بوضوح هو بين “الفن” (المكرس والجاهز والمشروط بأسبابه ومعاييره) والفن الطالع من الممارسة الثورية نفسها، وهو الفارق بين “الفنان” الذي يلبي فنه، والناشط الذي يطوع الأدوات الفنية ليلبي حاجات الثورة وجمهورها وشارعها.
وعلى هذا، من غير المجدي إخضاع الكتابة الشعرية في اليافطات لـ”النقد”، أو تفحص الشرط المسرحي في عراضات ساحات الإعتصام، أو تقييم اللحن والكلمة في أغنيات التظاهرات. فالإستماع لابراهيم قاشوش هو غيره الإستماع لصباح فخري. ومن البداهة القول، أن ترداد لازمة شعرية مع إيقاع التصفيق الحماسي في أزقة حماة ليس هو نفسه الإصغاء في أمسية شعرية بصالة دمشقية، والفرجة في إحدى ساحات حمص غيرها في قاعة مسرح “دوار الشمس” ببيروت.
والفن الطالع من الممارسة السياسية للناشطين السوريين، هو في متن الوقائع اليومية للثورة وغالباً ما يتصدر أحداثها ويكثفها، فهو بالكلمة والإيقاع والصورة والمشهد يبدو صنيع الثورة وصانعها في آن. وهذا الفن بطبيعته، ووفق زمانه ومكانه، أقل أمانة للشرط النقدي، وأكثر ميلاً للإرتجال ومحكوماً بوظيفته التعبوية الجماهيرية.
ومن جانب آخر، يحدث أيضاً أن تغوي الثورة الفنانين المنهمكين بالمسرح والشعر والرواية والرسم والموسيقى، فيأتون إليها لـ”الإستلهام” أو لـ”الإلتزام”، ويحاولون أن يأخذوا الوقائع و”التاريخ الذي يحدث الآن” إلى مختبر فنهم، علهم بذلك يقبضون على الحاضر – التاريخ أو يطمحون ليصيروا هم بفنهم “رمز” هذا الحاضر و”مثاله” الفني. يأخذون الوقائع طازجة من أجل ترويضها حسب ظنهم، وهي وقائع جامحة غالباً، وعصية على التهذيب أوالترويض. عصية على الخضوع لـ”الفن”.
وحدث أن ذهبنا إلى العرض السوري “فيك تطلّع بالكاميرا” (نص محمد العطار وإخراج عمر أبو سعدة) الذي استضافه ببيروت مسرح “دوار الشمس” يوم الثلاثاء الماضي. عرض يقوم على عنصرين متنافرين: مادة تصويرية توثيقية ولعبة تمثيل مسرحي. وقد أتى جمهور لبناني غفير إلى العرض، مندفعاً برغبة التعبير عن التضامن أو التأييد أو التعاطف، أي بحافز سياسي وأخلاقي أكثر مما هو حافز الفرجة أو التذوق الفني، وإن كان هذا الأخير يظل مطلباً أو شرطاً ضرورياً للحضور.. بل هو شرط لإضفاء الشرعية الثقافية على العرض في ادعائه “التعبير” عن الواقع والحدث.
مهمة العرض هي “تصعيد” ما هو موثّق ومتداول من حقائق يوميات الثورة إلى سوية التأليف المسرحي والمعالجة الدرامية. بدا ذلك للوهلة الأولى ممكناً عبر تقديم الشرائط الوثائقية وبثها من جهة، وجعل الحبكة المسرحية نفسها تقوم على سيرة الناشطة التي تنتج تلك الشرائط، والظروف الخطرة التي تحيق بمهمتها السرية. سيرة شابة من عائلة مهادنة للنظام تفرض عليها وقائع وشهادات المعتقلين الإنتقال من حال الفضول والتساؤل إلى حال التورط بالثورة نفسها. فـ”التوثيق” بحد ذاته، في ظل النظام الإستبدادي، هو عمل ثوري بامتياز.
لكن العرض يبقى طوال الوقت أسير الحيرة العميقة بين سطوة الوقائع (الشرائط التوثيقية) ومحدودية الدراماتورجيا (السيناريو، السينوغرافيا، الإخراج، التمثيل…). تلك الحيرة تثبتها الحلول المسرحية المرتجلة، ووهن التمثيل. وهكذا تسيطر الرتابة الخانقة على مجريات العرض. ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام تلك المعضلة القديمة، حين يتصدى الفن للأحداث الكبرى في لحظة جريانها. مرة أخرى نشهد الوقائع تطيح بالفن، طالما أنه يبدو كمن يريد التنزه عند فوهة البركان أثناء ثورانه.
تجربة “فيك تطلع بالكاميرا” تؤكد مجدداً أن ما نبحث عنه كتعبير فني هو ذاك المبثوث في الوقائع الحيّة، وقوته تبقى هناك في إحداثيات مكانها وزمانها، وما أن تفارق أرضها وواقعيتها، بالإنتقاء والتصنيف والمعالجة والتأليف، حتى تفقد شحنتها التعبيرية. فالوثائقي المبثوث في نشرة الأخبار، أو عبر الوسائط المتعددة (الأنترنت، الهواتف المحمولة..) الذي لا يخون ماهيته ووظيفته، هو “الحقيقة” الثانية بعد الواقع المباشر. وهذا هو الفارق الجوهري بين ممارسة فنية طالعة من الفعل الميداني، والتأليف الذي يبحث عن الفن.
أحد المعتقلين في شهادته المصورة، التي بثها العرض، يروي: كنت أتعرض للضرب المبرح. آلام لا يمكن وصفها، والمحقق الجلاد يقول لي “إن صرخت أو تأوهت سنعاود عدّ الضربات من جديد”. كان عليّ أن أتحمل الألم الرهيب صامتاً والضرب لا يتوقف. أغمضت عينيّ، ولا أعرف كيف تذكرت كالحلم ذاك المشهد من طفولتي، أنا وأسرتي في القطار برحلة إلى اللاذقية، مددت يدي من نافذة القطار ممتلئاً بالسعادة، وإذ بغصن شجرة صغير يلسع يدي، وصرت أتألم وأبكي.. هكذا، مع هذا التذكر فارقت في تلك اللحظات جسدي، الذي كان لا يزال تحت ضربات التعذيب.
تلك الشهادة، التي ندركها كسرد خالٍ من التأليف، أي بوصفها حقيقة، هي بالضبط ذاك الفن الذي يفرضه الواقع، بلا أسلبة. وكل محاولة لتحرير هذه الشهادة أو غيرها من ماهيتها وإخضاعها للشرط الفني المفارق والتخييلي، لتكون “رواية” مثلاً أو نصاً درامياً، هي “خيانة” مزدوجة للواقع وللخيال.
جاذبية وقائع الثورة السورية وممارساتها الميدانية المبهجة تأتي من تحرر فنون التعبير بأشكالها وأدواتها ومضمونها، كما تأتي من ابتكاريتها المرتجلة. وربما يجوز القول في هذه الحال، أن على صنّاع الفن ومحترفيه أن يتفرّجوا الآن، لا أن “يؤلفوا”. لا يكفي الفن أن يكون مقاوماً أو صائباً. عليه أحياناً أن يخون ذاته من أجل أن يقبض على الجمال الملقي على قارعة الطريق.
المستقبل