الوقت لا يخدم الأخطاء
عباس بيضون
بعد فترة عاصفة بالانقلاب والتنازع العسكري على السلطة، أرسى الرئيس حافظ الاسد وبعده ولده الرئيس بشار الاسد حكماً استقر وقتاً فاض عن الأربعين سنة. هذا مدى طويل في دولة لم يعمّر بعض عهودها سوى أشهر أو أعوام قليلة. استطاع الرئيس حافظ الاسد أن يوجد معادلة للحكم استمرت طوال هذه المدة ولم تكن الثورة الاخيرة سوى امتحان لصلابته التي أظهرت قدرة فائقة على المقاومة. فالعام الذي مضى في عمر الثورة السورية لم يمتحن زخم هذه الثورة ومثابرتها بقدر ما امتحن بالقدر نفسه قدرة الحكم على الصمود وعلى المواجهة. يملك الحكم قواعد شعبية واقتصادية وسياسية تجعله قابلاً لمواجهة طويلة. مواجهة عنيدة ومثابرة قد تنقلب حرباً اهلية. فالواضح أن قواعد اجتماعية وسياسية واقتصادية في الميزان، وأن ثمة قوى متصارعة على مستوى من التعادل والتوازن لا يبشّر بنهاية قريبة للصراع. الواضح أن في الحساب زعزعة نظام كامل بمبانيه وقواعده. اي ان حرباً طويلة وعاصفة ودموية بالقدر نفسه ستنشب وتستمر بأطوار وأحوال خطرة وستتبعها أنهار من الدماء وأعداد يومية من المذابح. كل شيء يدل على أن العبور سيكون على قنطرة دموية وان المخاض الدموي لن يكون اقل من حرب اهلية، واذا لم يكنها فسيكون شيئاً في حجمها. بين جميع الثورات التي نشبت في المنطقة ليست الثورة السورية هي الأخطر فحسب، بل انها لن تنتهي حتى تكون فعلت في المنطقة كلها. فهذه المنطقة التي تتشابه بتنوعها الطائفي والقطري وبوقوعها جميعاً على حافة حروب اهلية، ستتلقى من هذه الحرب ما قد يكون وقوداً لتفجيرها أو خطة لضبطها وموازنتها. لا نزال بعيدين عن هذه النهاية، ومن المبكر ان نفترض في شأنها، لكن اهتمام البلدان المحيطة بسوريا، شعوباً وحكومات، ليس مجانياً. انه ليس وليد الحماسة والتعبئة العاطفية، فهو بالقدر نفسه وليد نظر سياسي الى الداخل وحساب للمستجدات وانشغال بمستقبل خاص.
اما كيف استطاع الرئيس حافظ الاسد أن يقيم حكمه على موازنة كان لها هذا الدوام والاستمرار، فإن الرئيس أوجد لحكمه قاعدة اجتماعية اقتصادية عسكرية. بدأ الامر بتمييز الضباط الذين ارتقوا اجتماعياً في فترة وجيزة، فضمن الحكم لنفسه قاعدة ثابتة في الجيش أمن بواسطتها من داء الانقلابات المزمن. ثم ان الحكم عقد بين البورجوازية والنخبة العسكرية الحاكمة علاقات وتبادلات، وليس صمت دمشق النسبي وحلب الكلي بعيداً عنها. فضلاً عن ان الحكم قام على شبكة مخابرات خلوية ومسامية تضع المجتمع كله موضع مراقبة ومساءلة. أمن الحكم ايضا قاعدة من الاقليات التي في امتدادها الى بورجوازيات المدن الكبيرة تؤمّن له وزناً اجتماعياً غير منكور. الاحصائيات لا تدل على عكس ذلك. اذا كانت دولة الاسد معزولة في الريف فإن لها ثقلاً في المدن الكبرى. وقد يكون أحد وجوه الأزمة قائماً في التفاوت بين الريف والمدينة. ان استنفار المدن كما نلاحظ في الأحداث الأخيرة، هو استنفار للنسيج الاجتماعي المديني الذي للحثالة “لاندبروليتاريا” وللسقط الاجتماعي “الشبّيحة” فيه وزن فعلي. هكذا نجد ان البونابرتية كما هي في كتاب ماركس “18 برومير” تتجلى بوضوح، النخبة العسكرية وعلى رأسها الرئيس، قائمة على تعاون اجتماعي قوامه تحييد البورجوازية واغراؤها، فراغ اجتماعي يتيح للشبّيحة والحثالة أن يملكا ثقلاً مؤثراً.
غير أن الوقت لا يعمل لصالح النظام. الدعم الدولي من الصين وروسيا في شبه عودة للحرب البادرة، قد لا يبقى هو نفسه امام اعادة تقييم واعادة توازن دولي لم يسع الطرف الآخر اليها بعد، وليس مفهوماً بعد الثمن الذي يطلبه الطرف الصيني – الروسي، الا ان هذا الطرف مع النظام لا يزال قوياً، وبمجرد أن يلوح عليه ضعف حقيقي لن يستطيع أن يجد دعماً دولياً بالقدر نفسه. الوقت ليس لصالح النظام لأن التحول الى حرب اهلية سيجفل الاقليات وقاعدته من الاقليات. فالتوازن الديموغرافي ليس شيئاً تمكن الغفلة عنه، وليس شيئاً لا يؤبه له، او يمكن الاستمرار في تجاهله. الخوف من الاكثرية الساحقة يمتد الى المستقبل ولا يمكن الاستمرار في معركة كهذه من دون الخوف من المستقبل. ذلك ان الفوز، اذا حدث، سيكون فوزاً في معركة. اما الحرب فيكسبها في مدى زمني غير محسوب، الطرف الذي يملك موضوعياً وعلى مدى طويل المقومات التي تؤهله للفوز. الحرب الطويلة التي يتزايد طابعها الأهلي مع الوقت، لن تشجع الأقلية على انتزاع السلطة بالعسف. كما أن الأقلية لن تجسر على انتزاع علني كهذا تنكسر فيه شوكة الأكثرية. الخطر هو في تحول الحراك الحالي الى أكثروي، واستقطابه المتزايد للأكثرية. ما دام هذا لم يحصل وما دام التوازن قائماً، فستجسر الأقليات مع امتداداتها المدينية والبورجوازية على المواجهة. لكن انسحاب طرف من هذا التحالف الأخير بفعل زخم القتال وترسخ طابعه الطوائفي، أو بفضل تزايد الاشتراك المديني في المواجهة، انسحاب طرف قد يكون الطرف البورجوازي المديني من التحالف، سيجعل الأخطار ماثلة وستتراجع النخبة العسكرية، إذا وجدت نفسها منفردة، عن المشاركة في معركة تظهر فيها أقلويتها بشكل سافر. ستتراجع، وربما هنا وفي هذه اللحظة، يمكن أن ننتظر حلاً، قوامه التفاف هذه النخبة على المجموعة الحاكمة ومطالبتها بالمحافظة على التوازن الاجتماعي وعلى نظام يحفظ هذا التوازن، مقابل التخلي عن أفراد بعينهم ومقابل التخلي عن رتبية السلطة أو رموزها.
الوقت لا يعمل لصالح النظام، انه لمصلحة قيام عقد اجتماعي جديد. هذه وجهة قد تجعلها الحرب الأهلية غير ممكنة وغير ميسورة. الحرب الأهلية غير الصراع الأهلي الذي يمكنه أن يستتر وأن يملك من الديناميات ما يمنعه من أن ينكشف تماماً او ما يحول دون أن يتحول الى انفجار أهلي. لعل عدم التوازن الديموغرافي، قد يحرض الأكثرية على الهجوم، لكن الأقلية لم تعد أقلية بعد. ان لها من ارتباطاتها الاجتماعية والطبقية المدينية ما يجعلها نصف المجتمع. لكن الأقلية المحمية بهذه الارتباطات ذات الطابع الطبقي والاقتصادي، لن تجازف بهذه الارتباطات في دوامة حرب أهلية ترغم كلاً على أن يلتحق بمعسكر، أو تجبره على الأقل أن يقف على الحياد. ليست الحرب الأهلية إذاً لصالح النظام، بل حتى الخوف منها ليس لصالحه، لكن النظام إذ يخوض معركة وجود، قد يعمى عن هذه الحقيقة وقد يقبل أن يتحصن بأي حماية تُعرض له، حتى ولو كانت هذه الحماية موقتة وهشة وقابلة للانقلاب عليه. بدأ النظام عبر اذاعاته بالتلويح بحرب أهلية، لقد دعاه خوفه من تشكل أكثرية ساحقة ضده وهو ما لم يحدث الى الآن، دعاه خوفه من خطر داهم كهذا الى التلويح منذ اليوم الاول، بخطر حرب أهلية. لقد بدا كأنه بهذا يبشر بها. بدا أنه يبحث عن عصبية له في وضع يخشى منه أن يواجه فيه عصبية ساحقة. بدا كأنه يريد أن يستنفر عصبية له بأيّ ثمن. لم يكن في هذا الكثير من الذكاء. النظام بذلك يعين على نفسه. إنه يكثف بطبيعة الحال نفسه، ويتبنى حكم خصومه عليه، ويجازف بتحالف طبقي اقتصادي يحميه. قد يكون هذا الاحتماء بعصبية خاصة، هو مقتل الاستبداد الذي يعمى أحياناً عن رؤية مصالحه ويلجأ الى اللعب والتمويه والتخفي لتضييع مركزه ونواته. النظام السوري البعثي قد يلجأ على نحو قهري الى عصبيته، مهدداً بذلك تحالفه ومعسكره، مهدداً بذلك بأن ينكشف بدون حماية أو تمويه أو ستار. ان العسف الهائل الذي تأتينا أخباره، التفظيع والاثخان في القتل والتمثيل والتشويه، هذه أمور لا تنجح حتى في اخافة الناس الذين تخطّوا حاجز الخوف ولم يثنهم شيء خلال عام كامل عن أن ينزلوا الى المواجهة. التفظيع والاثخان في القتل مع استمرار المواجهة، لا يؤديان إلا الى تأجيج المواجهة والاستماتة فيها. ما نلحظه الآن هو هذه الاستماتة. إن اعادة فتح الاحياء والمدن السورية بعد عام كامل من المواجهة شبه الحربية، لا تؤدي الى اخماد التحرك، بل تؤدي الى تحويله الى حرب مدينية. أي حرب متنقلة من مكان الى مكان ومن حي الى حي. لن يستطيع حتى الجيش المنتصر، ان يحتوي كل الحراك ما دام ينفجر فوراً وفي أي ناحية، وما دام الهتاف وحده كافياً لإرعاب النظام، وما دام هذا الهتاف هو معيار الخصومة وهو السلاح الفعلي للجمهور.
الزمن لا يعمل لصالح النظام وإن بدا ذلك احيانا في الظاهر. ان الدخول الى حي بابا عمرو هو كالدخول الى درعا، هش وموقت ولا ديمومة له، ما دامت المواجهة ليست حربية بالكامل، وما دام الهتاف هو السلاح الافعل، وما دام انكار النظام ورفض شرعيته هو اساس المعركة. لقد انفك ما بين النظام وقطاعات واسعة من الشعب. لن يستطيع الحكم أن يحكم فعلاً مع سوء التفاهم الفظيع مع الرعية ومع عدم الاعتراف ونكران الشرعية المثابرين. إن اعادة فتح أو احتلال الاحياء يبدو كأنه الشكل الكاريكاتوري للسيطرة. انه شكل حربي، لكن الشكل الحربي الذي لم ينفع مع اطلاق النار واستنفار الشبّيحة في اخماد التحرك، لن يستطيع اخماده بإعادة الدخول الى الاحياء وكسر شوكتها. لقد كانت هذه الاحياء من قبل مفتوحة ولم يمنعها هذا من التحرك ولن تمنعها الدبابات من أن تتحرك. ثم إن الدبابات لن تطارد تظاهرات طيارة وتحركات تهبّ من حيث لا يتوقع أحد.
الوقت ليس لمصلحة النظام الذي يقترف، مرة بعد مرة، اخطاء سياسية قاتلة. إنه يدير معركته بدون حسابات سياسية تقريباً. يريد أن ينتصر وأن يحسم مهما تكن طبيعة هذا الانتصار. ليس أدل على عطبه السياسي، من انه يهلل لإعادة احتلال مدنه وبلاده. إعادة الاحتلال هذه تلخص لا مبالاته السياسية. إنه يعيد احتلال حمص كأنها بلد عدو، ويهلل لذلك كما لو كان انتصاراً حقيقيا. كذلك يفعل بإدلب ودرعا، في الوقت الذي يدعو فيه لاستفتاء شعبي على الاصلاحات الدستورية. مهما تكن هذه الإصلاحات، فإن اعادة احتلال المدن السورية ستقدم التفسير الحقيقي للاصلاحات الدستورية. اعادة احتلال مدن سورية سيطرح السؤال: لمن هذه الاصلاحات، وعلى من تُطرَح ما دام السلاح لم يتوقف اثناء الاستفتاء؟ انها الحرب التي لم تتوقف لحظة. كان الاستفتاء مستمراً فيما حي بابا عمرو تحت النار، من سيصدّق أن هذا هو الاستفتاء الحقيقي؟ وماذا سيكون معنى الاصوات التي تلقى في الصناديق اذا كان الجيش النظامي يتهيأ لاحتلال الاحياء والمدن؟ سيقول النظام ان له ايضا رصيده وانصاره، الأمر الذي لا يمكن التشكيك فيه. لكن الحقيقة هي أن النظام في حرب مع بقية الشعب. مع نصف الشعب، كما تدل الارقام الاخيرة، ونظام في شقاق دموي مع نصف الشعب او مع قسم كبير من الشعب، لا يحق له أن يستمر. اذا صدّقنا أن نصف الشعب مع النظام، فهل يعني ذلك ان نصف الشعب يفوّضه بهذا الحسم الدموي؟ لماذا الاستفتاء اذا كان الحل الدموي هو الحاسم؟ اذا كان نصف الشعب يفوّضه بالحسم الدموي، فهذا يعني انها الحرب الأهلية، وفي حرب اهلية لن يكون الاستفتاء سوى لعبة شكلية. في الحرب الاهلية لا مكان للاستفتاءات. في الحرب الاهلية يتكلمون عن مصالحة، وللمصالحة بنود ليس فيها استمرار القمع ولا السلطة القمعية. لن يكون الاستفتاء عندئذ الا نوعاً من اعادة الاحتلال بل سيكون ممراً لإعادة الاحتلال أو ذريعة لها. سيكون الاستفتاء جنب الحرب الأهلية وفي ظلها، خطأ سياسياً آخر. الحرب هي كل ما يصنعه النظام وما يحسنه، اما المعالجة السياسية فليست من شأنه ولا طاقة له عليها وليست في حسابه ولا في برنامجه. يريد النظام ان ينتصر، أن يعيد احتلال البلد وكسر شوكه الخصوم. هذا بطبيعة الحال لا يستقيم مع الديموقراطية ولا يتعايش معها. ما يستفيم مع ذلك ليس الا الثأر والضغينة والحزازة واذلال الطرف الآخر وكسر شوكته. ما خسره الحكم في السياسة لن يستعيده بالحرب. ومهما يكن، الوقت في المدى الطويل ليس لصالحه.
ملحق النهار الثقافي