الوليمة
عقل العويط
تعيش دولة لبنان منذ فترة غير وجيزة، سكرات التعفّن والاهتراء، حكماً وإدارةً وطبقةً سياسيةً واجتماعاً ومؤسسات. هذه حال الجسم الذي يعتريه سقمٌ جليل أو قعودٌ أو انحلال أو تبعية، بسببٍ من تهالك أعضائه وقزامة الممسكين بزمامه وأعنّته. هؤلاء جميعاً، تجمح بهم مشاعر متناقضة من الانتفاخ الذاتي والغلبة والمصادرة والتذلل والتماهي والتبعية. وقد بلغت بهم هذه المشاعر حدّاً بات يُخشى فيه أن يكون الجنون الرحيم “أعقل” أنواع النهايات، وأقلّها شجناً، بحثاً عما ينجّي من استفحال الاهتراء، ومن مفاعيل تدمير الجسم السوري وارتداداته، على يد آلة النظام هناك وحلفه الغاشم، وهي مفاعيل وارتدادات لن تكون رحيمةً البتّة علينا ولا على مصير البلاد.
لو سُئل أحد المواطنين المفجوعين بما آلت إليه حال بلادنا، أن يضرب مثلاً على اهتراء الأجسام، لما وجد جسماً يُعتدّ به في هذا المجال أكثر من جسم الدولة.
مواطنٌ مفجوع عزيز قال لي شيئاً فلسفياً من هذا القبيل، وهو يتحدث عن الموت البطيء الخبيث، كالذي يسري في كيان متعفّن، أو في جسم يجتاحه سرطان: يواصل هذا الكيان – الجسم حياته “طبيعياً” في الظاهر، لكنه ينحلّ رويداً وعميقاً في الباطن والطيّات، إلى أن يأخذ منه المرض كل مأخذ، بعد أن يمعن فيه نهشاً منهجياً أو عشوائياً، أقرب ما يكون الى استتباب النوم الموازي لامتناع الحياة.
يطيب لهذا المواطن المفجوع أن يقيم أعمق الوشائج بين حال الجسم اللبناني المهترئ، ومفهوم “الإبادة الأخلاقية” في سوريا، الذي استخدمه زميلنا ياسين الحاج صالح في مقاله، السبت الفائت، في “الملحق”، واصفاً فيه ما فعله النظام السوري بشعبه طوال العقود البعثية الأربعة الأخيرة. وقد أراد المواطن اللبناني أن يقول إن ما فعله الحكم الاستبدادي هناك، قد فعله هنا، مضيفاً إليه “تهيؤ” بعضٍ كثير من الجسم اللبناني لتقبّل هذه الإبادة المنظّمة، والتعايش معها، والتمرّغ في كنفها، كأنها أقدار كريمة مقدّرة.
أكثر ما يذهل ولا يُقنع، أن يؤخذ لبنانيون مثلاً، بشعار كشعار الصمود والممانعة، وزمانه. فهو، إن دلّ على شيء فعلى الانفصام المريع بين التسمية ودلالتها. بعد كل ما جرى، ولا يزال يجري من فجائع في سوريا ولبنان، وينكشف من “حقائق” الصمود والممانعة، لا ينفكّ هذا الشعار يُرفَع، ويُعمَل به “نظرياً”، إمعاناً في الإبادة المشار إليها، وفي مصادرة الحرية، والعقل النقدي، ومنع هذا الأخير من إعمال ملكات التفكير والمساءلة و… الثورة.
يقول هذا المواطن المفجوع لهؤلاء: ليهنأوا بالصمود والممانعة. وليأكلوا تفّاحاً وعنباً وتيناً مات ثمرُهُ على أمّه، ولم يحسنوا توقيت قطافه.
ويقول أيضاً: زمنهم صمودٌ ممانِع، نعم، لكن ليس من شرف. أرضهم ينابيع، لكن ليس من ماء. رغيفهم قمح، لكن ليس من حصاد. شمسهم سعيرُ نهار، لكن ليس من قمر. ليلهم نجوم، لكن ليس من فجر أو صباح.
زمنهم صمودٌ ممانِع، نعم، لكن شعوبهم (شعوبنا) أسرى، أو رهائن، أو قتلى. حتى أطفالهم (أطفالنا) قبل أن يولدوا، موتى.
خسئوا.
لم يبق شيءٌ، يا ناس، صامداً ممانِعاً. مع ذلك يسمّونه زمن الصمود والممانعة، ويجرجرونه موتاً خانعاً بطيئاً منذ 1948، لهثاً وراء سرابٍ قوموي كاذب، واحتماءً بخطبٍ وأحلامٍ مهيضة، وكراماتٍ لم تعرف يوماً أن ترفع رأسها لتتباهى أو لتجرؤ وتتواقح.
لأجل ذلك، يسمّونه، أيضاً، يا لعهرهم، زمن التصدّي للمؤامرات.
وهو فعلاً زمن التصدّي للمؤامرات. فإذا كانوا يجدّون الخطى بحثاً عن عدوّ، أو متآمر، فإنهم لا يريدون أن يعثروا على عدوّ، ولا أن يقبضوا على متآمر. ومع أن الأعداء والمتآمرين كثر واضحون، فإنهم يغضّون الطرف، ويكتفون بـ”عداوات” شعوبهم، و”المؤامرات” ينسجها فتيانٌ يكتبون بنظراتهم نشيد التمرد والحرية والمستقبل.
فليُمعِنوا!
***
البعض جعل، أخيراً، يسمّي هذا الزمن، زمن الاهتراء والتساقط، متيمّناً برؤوس أينعت ولم يفت أوان قطافها.
فليمعن أهل الصمود والممانعة، متلمّظين بنضج اهترائهم. وليُترَك للعفن أن يتعفّن، وللاستشراء أن يستشري، فيستولي على ما لا مفرّ من استشرائه والاستيلاء عليه.
بعد قليل، سيستدعي زمن الاهتراء هذا طيورَ الغربان، وسيكون الزمن زمن الوليمة القصوى.
في زمن الاهتراء هذا، يذهب البعض مذاهب شتّى في التصرّف والوصف.
كلّ ما لا يُرى سيُشَمّ، يقول هذا البعض. فما من خفيّ إلاّ سيُعلَم. وما من مستورٍ إلاّ سيُكشَف. وما من ظالمٍ إلاّ سيُبلى بأظلم.
وها هو نذير الروائح في كل مكان. فلا بدّ أن تكون الجثث مرمية في كل مكان.
فليسرح الدود، والحال هذه، وليمرح، في كل مكان. وليكن الذباب هو الفضاء والهواء في كل مكان. وليكن طعامٌ للأفاعي في كل مكان. وليكن شبعٌ للغربان في كل مكان. وليكن ما يكون، إلى أن يقضي الاهتراء أمراً كان مفعولا.
بعد قليل تبدأ الحفلة. أو، ها هي قد بدأت فعلاً. فليُحتفَل إذاً. وليؤذَن لهذا الاهتراء أن يطمح الى غاياته. فلا بدّ للاهتراء من غاية. لا بدّ له من ذروة. وإذا كان لا بدّ من نهاية، فلتكن هذه هي النهاية. وسيكون بعض اللبنانيين، للأسف الشديد، ضحايا هذه الوليمة، وسيلعنهم التاريخ لانضمامهم الى منطق الإبادة الاخلاقية للشعبين السوري واللبناني على السواء.
سيمضي وقتٌ قبل أن تتلاشى الروائح، ويتغيّر طعم الهواء. وعليه، سيقول البعض للذين تجيش نفوسهم بسببٍ من فساد الجسم في هذا الزمن: لا مفرّ من أن يبلغ الفساد مبلغه في جسم هذا الزمن.
بعد شهر، بعد شهرين، بعد ثلاثة، أو أكثر، لا بدّ من أن ينتهي هذا الصيف النتِن المهترئ القذِر. الطوفان آتٍ، ومعه أمطار وعواصف وسيول تجرف الزمان وأسياده، وتأخذهم الى اللازمان واللامكان.
إلى أن يبدأ العمر، ها هنا، وفي سوريا بالطبع، مرةً جديدة. إلى أن يبدأ الزمانُ والمكان ها هناك، وها هنا.
ولن تنجح إبادةٌ بعد الآن. فليمعِنوا!
النهار