الوهم التركي/ سلامة كيلة
منذ التدخل الأميركي “ضد داعش”، وتركيا تتوهم أن “المأزق الأميركي في الحرب ضد داعش” سوف يتيح لها لعب دورها. ويستجر هذا الوهم التركي وهماً لدى أطراف في المعارضة السورية بأن الأمور سوف تختلف في المرحلة المقبلة، وسيقود التدخل التركي إلى “إسقاط النظام”.
حين توصلت مجموعة العمل حول سورية إلى مبادئ جنيف1، لمست تركيا أن أميركا قد تفاهمت مع روسيا. وبالتالي، خسرت هي مصالحها في سورية، المصالح التي حصدتها من السلطة الحالية. لهذا، استجابت للضغط السعودي لإدخال “الجهاديين” إلى سورية، بعد أن كانت رافضة له، لأنها تريد إسقاط النظام، وفرض بديلها الذي تمثّل حينها في المجلس الوطني. وأخذت تسهّل مرور وإقامة كل المجموعات الأصولية القادمة من أنحاء العالم لـ “الجهاد” في سورية. وأكثر من ذلك، أخذت تنسّق معها من منظور “التخريب” على التوافق الأميركي الروسي. ولقد ظنت أنها باتت تتحكم فيها، بالضبط كما كان يظن النظام السوري، وأيضاً، النظام في إيران. لهذا، أصبح من الطبيعي أن ترى تحركات عناصر داعش والنصرة في الأراضي التركية، علناً، ومن دون إزعاج.
وحين تقدمت أميركا لـ “الحرب ضد داعش”، ظنت أنها سوف تفرض منظورها، فقد أعلن أردوغان بعد أن يئس من قبول بشار الأسد إصلاح النظام وبناء نظام تعددي، أنه حين يُطرح التدخل في سورية، فتركيا أحق في أن تفعل ذلك. كان هذا التحديد يحيل إلى الصراعات الدولية حول سورية، حيث يبدو أن الرؤية التركية كانت تعتقد أن أميركا سوف تتدخل لصالحها، وتقطع الطريق على تركيا التي ستخسر مكتسباتها. طبعاً، إضافة إلى بروز النهم الروسي. لهذا، كان أردوغان يقول إن سورية “له”، وليس لأيٍّ من الدول الأخرى. لهذا، بعد بيان جنيف1، أخذ “يلعب بداعش”، لاستجرار قرار دولي، يخوّل التدخل العسكري ضدها. ولأن أميركا باتت لا تستطيع إرسال قوات برية، والحرب ضد داعش تستلزم ذلك، اعتقد أردوغان أن أميركا ستكون مضطرة لدوره. بالتالي، بعد أن أصبح التدخل الأميركي قائماً ضد داعش، أعلن شروطه التي تتعلق بـ “إسقاط النظام” أيضاً، عبر فرض “منطقة آمنة في الشمال السوري” (أي فرض منطقة حظر جوي). وهو، إلى الآن، ينتظر “تورط” أميركا، وبالتالي، حاجتها إلى قوى برية، بات يحضّرها لذلك.
هذا هو الوهم التركي الذي ينطلق من أن لعبته بداعش قد نجحت، ولم يبقَ سوى اعتراف أميركي بضرورة تدخل تركيا بعد الموافقة على شروطها. لا شك في أن داعش مخترقة لأجهزة أمنية عديدة، من إيران والنظام السوري إلى السعودية، وصولاً إلى تركيا. وكل من هؤلاء لعب لكي يضعها في سياق استراتيجيته. لكن كل “الحالة الجهادية” مؤسَّسة أميركياً منذ الحرب ضد السوفييت في أفغانستان، وهي ممسوكة في مفاصلها التي تنتج هذه القوة والتقنية العالية والقدرات المالية. وإذا كانت قد خدمت النظم في إيران وسورية وتركيا في الفترة السابقة، فقد وُضعت في خدمة إستراتيجية أميركية جديدة، تهدف إلى إعادة السيطرة على العراق، والتأثير في المسار السوري (أو اتخاذ المسار السوري ورقة ضد في الحوار مع إيران وروسيا). لهذا، أشرت مراراً إلى أن أميركا لا تحارب داعش، بل تخوض الحرب بداعش، أي تستخدمها ضد القوى الأخرى، لكي تتدخل وتفرض شروطها هي. وسنلمس بأن داعش توسعت، في ظل الغطاء الجوي الأميركي، في ساحة يسهل فيها صيد كل حركة، وهذا ما فعلته أميركا في جيش العراق قبل الاحتلال وخلال الغزو.
أقول إن تركيا أردوغان تتوهم قرب تدخلها لفرض “رجالاتها”، وهذا ما يظهر واضحاً في السيطرة الإخوانية على “الحكومة المؤقتة”، كما على الائتلاف. فهي تعتقد أن الوقت قد حان، لكي تتشكل الهيئات التي ستمارس “السلطة” على الأرض التي سيفرض عليها الحظر الجوي، مقدمة لكي تصبح هي السلطة المقبلة في دمشق. لكن، هذا وهم، والأخطر منه أن أطرافاً في المعارضة تعتقد بذلك، وتهيّئ لكي تستلم السلطة. ولهذا، نجدها ترفض الحل السياسي، وتوهم أن الصراع ضد السلطة سينتهي قريباً.
“ما هو ضروري فهم أن لا نهاية للصراع إلا بحل سياسي، وهذا الأمر واضح منذ البدء، لكنه بات مكشوفاً الآن”
لن توافق أميركا تركيا على شروطها، وهي، أصلاً، لا تريد لتركيا أن تسيطر في سورية. ولا بد من نزع الوهم أن أميركا تقاتل داعش، وهو أمر يعني أن كل التكتيك التركي خاطئ. فأميركا تساوم إيران على وضع سورية، وما زالت تتحاور مع الروس حول ذلك. هذا ما يمكن أن يشكل صيغة الحل في سورية، إلا إذا لم تستجب روسيا وإيران لذلك، وظلتا متمسكتين ببشار الأسد، الأمر الذي يمكن أن يدفع إلى تركيز داعش في سورية، بعد ترتيب وضع العراق لمصلحة أميركا، ومن ثم الشغل على ترتيب أميركي للوضع السوري. بالتالي، حتى في ذلك ليس لتركيا دور أساسي، فبالنسبة لأميركا، تمددت تركيا في الفترة السابقة أكثر مما يجب، وعملت، بخلاف السياسة الأميركية، حين فرضت الإدارة الأميركية الحصار على النظام السوري (كما تفعل، الآن، بالعلاقة مع روسيا في ظل العقوبات الأميركية والأوروبية عليها، إذ توافق على مد أنبوب الغاز من أراضيها). ومن ثم لا يجب أن يتجاوز دورها دور الدولة الصهيونية، كما أرادت أن تفعل سابقاً.
هنا الدولة التركية تتوهم بالحاجة الأميركية إليها، وأميركا تسير في مسار آخر. لهذا، لن تقبل فرض حظر جوي أو مناطق آمنة، أو أي تدخل تركي في “الحرب ضد داعش”. وبالتالي، لن تقبل سياسة تقود إلى إسقاط النظام عبر الدور التركي. وكما أشرنا، أميركا تريد التفاهم مع إيران تحديداً. لهذا، لن “تبيع” سورية لتركيا، فهذه من حصة روسيا/ إيران.
يعني ذلك كله أن المراهنة على تغيير معادلة الصراع، عبر الدور التركي في سياق العمل على إسقاط النظام، هي وهم كذلك. فلن تستطيع تركيا لعب أي دور من دون غطاء أميركي. لهذا، لا بد من فهم الوقائع بدقة شديدة، ووضع سورية يسير نحو استعصاء مؤلم. ما هو ضروري فهم أن لا نهاية للصراع إلا بحل سياسي، وهذا الأمر واضح منذ البدء، لكنه بات مكشوفاً الآن. الأمر الذي يدفع إلى بلورة صيغة لهذا الحل والشغل على أساسها، طبعاً من دون توقف الثورة أو وقف الصراع، إلى أن يجري التوصل إلى الحل، على أساس مبادئ جنيف1 التي تنطلق من تنحية بشار الأسد ومجموعته.
العربي الجديد