صفحات الحوار

الياس خوري: عليك أن تصدق روايتك كي يصدقها القارئ


اسكندر حبش

« الحرب مدرسة سمحت بأن نكتشف كم نحن وحوش

سينالكول»، هي الرواية الأخيرة التي صدرت مطلع هذا العام للروائي اللبناني الياس خوري (دار الآداب)، وفيها يتابع رحلته الكتابية، في استحضار مشهد الحرب الأهلية في لبنان، وكأن المتابة هنا ترتجي الذاكرة، كي نرى من خلالها الحاضر.

عبر قصة شقيقين، ندخل إلى تفاصيل جزء من حياتنا، وكأن استعادتنا لها، محاولة لمواجهة حاضر لا يتوقف عن أن يتأزم، وعن أن يكرر عودة شياطينه التي لا تنتهي.

بين الخيال والواقع، تختفي الحدود لكتابة تحيل غير الحقيقي إلى حقيقي، وتطرح عليه العديد من الأسئلة. ومن هذا الأسئلة، هذا اللقاء مع خوري، الذي يتطرق إلى روايته الأخيرة، كما إلى جملة من الموضوعات التي تشكل عالمه الكتابي.

÷ «سينالكول» روايتك الأخيرة التي صدرت مطلع هذا العام، ومعها أضفت طابقاً لعمارتك الروائية. بداية أحب أن أسأل، بعد هذه الرحلة مع الكتابة التي بدأت في سبعينيات القرن الماضي، إلى أين وصلت بها، أو ربما إلى أين أوصلتك؟

} هناك قصيدة أحبها كثيرا لمحمود درويش يقول فيها «طوبى لشيء لم يصل»، فأنا لا أعتقد أنني وصلت لأن الوصول الحقيقي هو الموت. وبعده يمكننا أن نتحدث عن نقطة النهاية. حتى في الموت لا وجود لوصول حقيقي لأن النص يعاد تشكيله دائما في القراءة، والقارئ الأكبر هو الزمن. لكنني أستطيع أن أقول إنني فتحت أبوابا ودخلت أماكن لا تزال أبوابها مغلقة في وجهي، وعليّ أن أفتح أبوابا أخرى. وفي هذه الرحلة تغيرت كثيرا بل أستطيع أن أقول اليوم إن ذاكرتي الشخصية صارت جزئيا على الأقل، هي ذاكرة الحكايات التي كتبتها إلى درجة تجعلني أشعر أن الرواية هي التي تكتبني وأنني مع كل رواية جديدة أصير شخصا جديدا وأكتشف في داخلي ظلالي المتعددة، الإنسان الفرد في الأدب كما في الحياة ليس واحدا. بل إن هذا الواحد يختزل في داخله آخرين كثيرين ولعل اكتشاف أجدادنا الشعراء الجاهليين لصيغة المثنى التي تجعل الشاعر ينقسم إلى نصفين وتقيم حوارا بين الإنسان وظله هي البراعم الأولى التي تأخذنا إلى فكرة التعدد في الأدب، وحين يتعدد الأدب فهذا يعني بمعنى ما أن الحياة نفسها متعددة.

تعلمت الكثير ولكنني أشعر أنني لا أزال في حاجة إلى أن أتعلم سر العتمة التي تحيط بالروح الإنسانية. هناك مع شخصيات تخيلتها وأتخيلها أكتشف كم أن التجربة الإنسانية عميقة وغامضة وممتعة ومأساوية أيضاً.

÷ وكأنني أفهم في حيّز من كلامك أن ثمة امتزاجا كبيراً ما بين الكتابة والحياة عندك، هما وجهان أو كما «تقول الشخص وظلّه»..

} أعتقد أن الكتابة ليست مهنة، الكتابة هي طريقة حياة ونستطيع أن نكتشف هذه الحقيقة في قراءتنا لتجربة الأدب منذ أن نشأ الأدب. الكاتب هو أداة أو كما تسميه العرب مؤلف، أي مؤلف لعناصر الحياة وهو يشتغل عند رب عمل هو الأدب، أي أن حياتنا عمليا تنقلب رأساً على عقب حين يصبح المتخيل جزءا ثابتا منها. فالكاتب يعيش بين الحقائق اليومية وبين الخيال، وبالتالي تصير حياته الشخصية أسيرة هذه المعادلة الصعبة والمعقدة، يحاول جاهدا أن يفصل بين طرفيها لكنه يكتشف أن هذا محال وأن ما نسميه خيالي هو الذي ينتصر في النهاية ويعرض قواعده.

إذا أردت أن أشرح هذه الفكرة بشكل ملموس أقول مثلا إنني حيث أكتب رواية ما عليّ أولا أن أصدقها أنا وإلا لن يصدقها القارئ. وعندما تولد شخصيات هذه الرواية بشكل شبه سحري بين يدي تتحول إلى شخصيات حقيقية عليّ أن أتعامل معها بلطف وحب وإلا فإنها سترفض البقاء في عالمي.

هكذا تتحول هذه الشخصيات إلى شخصيات أكثر حقيقية ربما من الشخصيات الحقيقية التي أعيش معها وأتعامل معها كل يوم، وحين تعيش مع شخصيات خيالية بوصفها شخصيات حقيقية فإن هناك خطرا في أن تتحول أنت أيضا إلى شخصية خيالية وأن تضيع عندك المسافات التي يضعها المجتمع. من هنا تصير حياتك كلّها أسيرة هذه اللعبة وتصير أنت ككاتب مجرد أداة تحسن الإصغاء وتحاول أن تنقل ما تراه من أفعال وكلمات ومواقف تقوم بها الشخصيات الروائية. أنا مقتنع في أعماقي أن الكثير من الشخصيات الروائية التي كتبتها أو التي كتبها غيري صارت اليوم شخصيات حقيقية وصار لها حياتها التي يمكن أن تستمر خارج الكتب التي روتها. بهذا المعنى ليس في الأدب إلا أدب ناقص. الفرق بين الكاتب وبين شخصيات الروايات هو أن الكاتب يموت، أي يكتمل بالموت بينما تبقى شخصيات الروايات حية لأنها تتجدد دائما بالقراءات.

الخيال والواقع

÷ تطرح هنا إشكالية كبيرة، لم يتوقف الأدب منذ نشوئه على التطرق إليها. وهي هذا الحيّز بين الخيال والواقع. كأنك هنا تنحاز إلى الخيال، بمعنى أن الأدب وكأنه لم يعد بحاجة إلى مؤلفه، لأنه هو الذي يحيا، انطلاقا من خيال ليصبح الواقع الوحيد؟

} ما هو الواقع؟ الواقع هو مجموعة من العناصر المختلفة التي يلعب فيها الخيال دورا أساسيا. الأمة هي حقيقة متخيلة، الأفكار هي تحويل الواقع إلى احتمال، وفي الاحتمال يلعب الخيال دوراً أساسياً الخ، أي أن ما نسميه خيالا هو جزئيا ذاكرتنا نحن، لا يوجد ذاكرة بريئة. كل ذكريات طفولتنا هي مزيج مما عاشوه ومما تخيلوا إنهم عاشوه. كل تجارب الحب هي مزيج من ممارسة ومن خيال. ربما كان الحب هو أكثر عناصر الواقع اختزالاً للخيال. فالرجل يحب امرأة معينة والمرأة تحب رجلا محدداً حين يلعب الخيال دوراً أساسياً. أما حين ينتفي الخيال فالحب يتلاشى ويموت. إذاً الأدب هو عملية التقاط الحياة في لحظة العلاقة بين الذاكرة كمتخيل وسبق المتخيّل كذاكرة. هذه العلاقة تسمح لنا بأن نكتشف ما لا نفهمه في حياتنا وتسمح لنا بأن نبحر إلى أعماق التجربة الإنسانية وتسمح لهذه التجربة بأن تتجدد إلى ما لا نهاية. كلنا يعرف بيت الشعر الشهير لعنترة بن شداد حين بدأ معلقته «هل غادر الشعراء من متردم». كان الشاعر الجاهلي يشعر أن كل شيء قيل قبله ليكتشف انه وهو يستعيد القول ويؤلفه يصل إلى مناطق تتجدد دائما. أيّ كتابة تحمل في داخلها حقيقة إنها إعادة كتابة لمعنى ما. ولكن ما نسميه هنا إعادة كتابة هو اكتشاف جديد للأشياء لأن الكلمات تغير معانيها في الزمن ولأن الإنسان يتغير ويتحول مع تحولات الأزمنة. نحن إذا حين نكتب نعرف أن الكتابة عكس ما يُظن هي أكثر الأفعال تواضعا، يظن الناس، ومعهم الكثير من الكتّاب، أن الكتابة هي عمل نرجسي وأنها تعطي من يقوم بها تفوقا كبيراً، وهذا في رأيي مجرد وهم. حين تكتب تتعلم أن تتواضع أمام الكلمات وأمام الكتابات التي سبقتك والكتابات التي ستأتي من بعدك، وتفهم أنك ككاتب لست سوى اسم معرّض للنسيان. ما يبقى من عمل أدبي ناجح أسماء أبطال الروايات وليس أسماء الكتّاب وان بقي الكاتب فإنه يصبح مجرد اسم. ماذا نعرف عن شكسبير مقارنة بما نعرفه عن هاملت. من هو أكثر أهمية في حياتنا سوفوكل أم أوديب. هذا بالطبع يجب أن لا ينسينا أن الكثير من الأعمال الأدبية العظيمة لا تعرف أسماء مؤلفيها من ملحمة جلجامش إلى الملاحم اليونانية إلى ألف ليلة وليلة…

÷ يجعلني جوابك أفكر بالتالي، كأننا هنا لا نكتب ذاكرتنا بل ربما واقعنا؟

} طبعا نكتب واقعنا بعيون ذاكرتنا، وفي زوايا مختلفة، وبرؤية خيالنا له فيصير ما نكتبه هو الذاكرة الحقيقية. طبعا هذا يقتضي من الكاتب عملا دؤوبا على اكتشاف الأشياء، تحرّي الحقائق، جمع التفاصيل، من خلال القراءات والرحلات والاستماع إلى الآخرين لكنه في النهاية حين يكتب يضم كلّ هذه العناصر إلى مشروع حكائي متخيل. يعني حين كتبت «باب الشمس» عشت طويلا في المخيمات الفلسطينية. من أجل أن أكتب «يالو» درست اللغة السريانية. من أجل أن أكتب «كأنها نائمة» عملت كثيرا على اكتشاف مناطق لا أعرفها في فلسطين مثل الناصرة ويافا، ومن أجل «سينالكول» ذهبت كثيرا إلى طرابلس وحمص وتعلمت من شباب الأحياء الشعبية في طرابلس الكثير من الحقائق. أيّ كما ترى هناك عمل ملموس عليّ أن أقوم به، ولكن أيضا هذا العمل الملموس يجب أن يتفتح في مبنى روائي متخيل كي يأخذ كل أبعاده أي كي يذهب في واقعيته إلى أبعد مما يسمح به الواقع. ربما كان هذا أفضل تعريف للخيال، أي أن نذهب في الواقع إلى ما لا يستطيعه الواقع نفسه.

الجغرافيا والتاريخ

÷ بالتأكيد، ولو استعدنا عبارة شهيرة لفونتس الرواية هي الجغرافيا لا التاريخ، أظن لأننا نتحرك دائما على أرض متغيرة باستمرار.

أنا لا أوافق فونتس على هذا التوصيف. أميل إلى القول إن الرواية تضم عنصرين، العنصر الأول هو جغرافيا الروح أي تسمح لنا بالتوغل في تضاريس الروح الإنسانية وتسمح لنا بأن نكتشف غابات الضباب التي تحيط بنا كبشر وتصنع حيواتنا ومناماتنا هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالرواية هي تاريخ المهمشين الذي هو أكثر أهمية في رأيي من تاريخ المنتصرين ومن تواريخ السلطة. الحاجة إلى الرواية هي تعبير عن حاجة الإنسان إلى مدى خارج إطار التاريخ الذي يكتبه المنتصرون، هذا المدى هو تاريخ المهزومين والمقموعين والمهمشين. من هنا تستطيع الرواية أن تضيء التجربة الإنسانية. بينما يقوم التاريخ الذي يكتبه المنتصرون بحجب هذه التجربة وخنقها وتحويلها إلى مجرد هامش. لذلك نشعر أن تاريخ البشرية لن تجده إلا في الأدب والشعر والرواية والمسرح وفي الأعمال الفنية. لا يوجد أي مؤرخ جرؤ على أن يكتب تأسيس فكرة «المحارم» كما فعل سوفوكليس. لا يوجد أي نص يوازي اكتشاف الوحشية الإنسانية كما ترى في النص الذي يروي حكاية إبراهيم الخليل مع ابنيه لا يوجد ما يكشف هذا المزيج بين البلاهة والمأساة كما في رواية الأبله لدوستويفسكي الخ.

÷ وفي هذا كله، أين نضع «سينالكول»؟ بمعنى لست مؤرخ الحرب اللبنانية، لكن الحرب تجتاز عملك من «الجبل الصغير» إلى الآن؟

} طبعاً أنا لست مؤرخ الحرب، بالطبع أنا مؤرخ بعضا من جوانب التجربة الإنسانية خلال الحرب وما أثاره هذا الموت الكثير من تداعيات وتجارب وآفاق مرّ بها الناس. الحرب كانت مدرسة سمحت لنا بأن نكتشف كم نحن نستطيع أن نكون وحوشا ونستطيع أن نكون إنسانيين في الوقت عينه، وبهذا المعنى كانت مدرسة تعلمنا فيها تناقضات الإنسان، سموه ونذالته، حبه وحقده، قوته وضعفه في الآن عينه. الحرب الأهلية تجربة مرّة يجب أن لا تتكرر، لكنها على المستوى اللبناني تشبه الدائرة التي لا تتوقف عن الدوران، فأنا أعتقد أن لبنان تأسس في الحرب الأهلية العام 1860 حين صنعت المتصرفية وهو يحمل في ذاته مرضه التأسيسي وجرثومة حروبه الوحشية. لا أريد أن أدخل في تحليل الحرب لكنني فقط أريد أن أقول إن مرضنا اللبناني هو الطائفية، وأن الطائفية شكل من أشكال العنصرية وأننا إذا لم نبرأ من هذا المرض فسوف نبقى ضحاياه إلى ما لا نهاية.

«سينالكول» لا تروي من الحرب سوى شذرات، فهي حكاية شقيقين توأمين مع امرأة واحدة، وهي حكاية حب بين خالد وحياة، وهي حكاية سلطة المعرفة التي اتخذت شكلا مرضيا على يد الصيدلي نصري الشماس، وهي أخيراً حكاية شبح اسمه سينالكول لا نلتقي به في الرواية إلا كشبح لكنه يحتل حياة كريم شماس إلى درجة التماهي.

لكن أيضا سينالكول هي رؤية لحكاية جيل الخيبات والأحلام اللبناني والفلسطيني، حكاية فدائيين ينتحرون، وأبطال فقدوا معنى البطولة، وأفكار تتحطم في الواقع وفي تناقضات الحرب الأهلية. ربما كانت سينالكول هي أحد أبرز رواياتي مأساوية لأنها تنقل خيبة جيل السبعينيات الذي صنع الحرب الأهلية كما تنقل الألم الهائل الذي لم يستطع الحب أن يخفف منه أو أن يعالجه، إنها عمليا تجربة عن حب لم يكتمل في وطن لم يكتمل في ثورة لم تكتمل.

÷ سأقدم قراءتي الشخصية: هي أيضا من أكثر رواياتك انسحابا من الأفكار التي وجدناها في أعمال أخرى. ولست رحيما، لأنك تأخذ كل شيء إلى النهاية.

} أولا أحترم هذه القراءة وأعتقد أنها لا بد تتضمن قدراً من الصواب، وأنا لست في معرض الدفاع لا عن أعمالي القديمة ولا عن عملي الجديد. أعتقد أن النص الأدبي إما أن يحيا في الآخرين أو يموت، وحياته وموته مسألة لا علاقة للمؤلف بها. لكنني أريد أن أشير إلى حقيقة لفتت الكثير من أصدقائي الذين قرأوا «الجبل الصغير» صدور 1977 الذين فوجئوا مثلا بالفصل المعنون باسم الكنيسة، أو بالفصل الأخير المعنون باسم ساحة الملك، حيث اعتقدوا أنني لست ثوريا بما فيه الكفاية لأن منحى الرواية في الأخير يميل إلى قراءة الحرب بوصفها حالة تتضمن الكثير من العبثية. ثم أريد أن ألفت إلى أن «الوجوه البيضاء» التي صدرت عام 1981 والتي منعت عملياً، هي الرواية الوحيدة ربما التي منعتها القيادة الفلسطينية، علما أنني كنت أعتبر نفسي مناضلا في صفوف الثورة الفلسطينية، وهذه الرواية كانت أعنف صرخة للحرب الأهلية. فكما ترى هناك استمرار في التجربة ولكن هناك تغيرات كبرى.

كتبت من موقع شاب يشارك في القتال، ورؤيته النقدية جزءاً من مشاركته في القتال وأنا لست نادم على مشاركتي في المقاومة الفلسطينية أولا ثم مشاركتي الجزئية في الحرب الأهلية اللبنانية. فأنا قمت بواجبي كمواطن وكمؤمن بضرورة التغيير في لبنان وكملتزم بالحق الفلسطيني.

بالطبع الرؤية الأدبية الآن اختلفت، ليس لأنني لم أعد مؤمنا بالتغيير فأنا مؤمن به، وليس لأنني تخليت عن القضية الفلسطينية، فأنا أكثر التزاما بها وبأهميتها الأخلاقية اليومية، لكن الاختلاف نابع من تراكم الكلمات والتجارب.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى