راتب شعبوصفحات سورية

اليساري المُهان/ راتب شعبو

 

 

 

دخل مفهوم اليسار في غيبوبة مطلع التسعينات، حينما عجز عن التعامل مع التيارات السياسية التي بزغت داخل الحزب الشيوعي السوفييتي، بتأثير عملية البيريسترويكا. كان التيار الغورباتشوفي الذي أطلق العملية، في منتصف الثمانينات، يبدو على أنه اليسار الشيوعي الذي بدأ يبث الروح في الكتلة الشيوعية الضخمة العاطلة، غير أن إعادة البناء تلك أفضت إلى تبلور نزوعين رئيسيين، نزوع الاستقلال لدى الجمهوريات، أي الانفكاك عن الاتحاد السوفييتي، والنزوع الليبرالي الداعي إلى اقتصاد السوق والتقارب مع أميركا والغرب. لم يكن أيٌّ من النزوعين السابقين مما ترغبه العملية أو تتوقعه، لكنهما سيطرا بقوة على فكرة البيروسترويكا الأساسية المأمولة، وهي تثوير الاشتراكية أو بث الروح فيها.

فشل مفهوم “اليسار” في استيعاب واقع الانفصالات التي راحت تتوالى، بدءاً من جمهوريات البلطيق (مولدافيا، لاتفيا، أستونيا)، وفي تحديد الموقف منها. هل النزوع الاستقلالي يساري أم يميني؟ هل يكمن الموقف “اليساري” في منع الانفصال بالقوة، أم في ترك الجمهوريات “تقرر مصيرها”؟

وفشل المفهوم أكثر في استيعاب طبيعة الصراع بين “المحافظين” الذين أرادوا تطوير “الاشتراكية” بمزيد من الانفتاح والإجراءات الديمقراطية، و”الليبراليين” الساعين إلى اعتماد اقتصاد السوق والالتحاق بالغرب. في بداية عملية إعادة البناء، وقبل أن يظهر هذا التمايز، كان يُنظر إلى أنصار البيريسترويكا جميعاً على أنهم “إصلاحيون”، وكان يمكن اعتبارهم يسار الحزب الشيوعي السوفييتي وطاقته الثورية. ومع بداية التمايز ذاك، فشل المفهوم تماماً، وقصّر عن استيعاب هذا الواقع. تاه المفهوم حقيقةً أمام محاولة الانقلاب التي قادها ياناييف المنتصر لنتيجة الاستفتاء الشعبي الذي صوت فيه غالبية الناس لصالح الحفاظ على الاتحاد السوفييتي، ضد غورباتشوف الذي أراد إعطاء سلطاتٍ أوسع للجمهوريات بصيغة كونفدرالية لا مركزية. لم يكن هناك معنى للبحث عن يمين ويسار في هذا الصراع، ضمن قلعة اليسار العالمي؟

بعد ذلك، تحوّل مفهوم اليسار إلى شبح بملامح متمادية وغير واضحة. فقد المفهوم قيمته مع موت القطب الذي كان يسنده عقوداً، فقد كان الاتحاد السوفييتي يسار العالم، بدلالته كان يتحدّد اليمين، وكان يتحدّد اليسار المتطرّف أيضاً.

وفق أي دلالةٍ، نحدّد اليساري في الصراع السوري المحتدم اليوم؟ هل اليساري هو الليبرالي الذي يستسلم لقوانين السوق مقابل الانتصار “للحرية الفردية”، المسحوقة تحت نعال أنظمةٍ استبدّت باسم الوطنية والاشتراكية، أم هو المناضل الذي يجعل بوصلته معاداة “الإمبريالية” في كل تجلياتها التي يمكن أن تكون على شكل “ثورة حرية”؟ ماذا يخدم اليسار، مثلاً، في التفريق بين المقاتل الإسلامي الذي يتحمل شظف العيش وقسوة الحرب في أرياف سورية، ويحلم بنظام إسلامي يعتبره عادلاً، ومقاتلٍ اختار أن يقاتل مع “الجيش الوطني”، إنقاذاً لسورية من مؤامرة يؤمن أن العالم يشترك فيها، بغرض تقسيم سورية وتدميرها؟

حين نتكلم عن يسار سوري اليوم، فإننا نحرّض في ذهن القارئ حيرةً، أو أفهاماً وتصورات

“لم يبخل اليساريون في سورية بشيءٍ في سبيل آمالهم، ولم تكن أخطاؤهم أفدح من أخطاء غيرهم” مختلفة. هذا عن المفهوم المجرّد في أذهان العامة، وماذا عن اليساري الذي مات “مفهومه”، وهو على قيد الحياة؟ كيف يعرّف نفسه؟ هل يعرّف نفسه بدلالة الحرية، فيجد نفسه في متاهة تحديد معنى هذه الحرية؟ أهي حرية السوق التي ناضل ضدها طوال عمره، أم الحرية الفردية التي طالما اعتبرها خدعةً لتغطية الاستلاب الذي تكرّسه الرأسمالية، أم الحريات السياسية التي كانت دائماً في منظوره شكلاً فارغاً، ما لم تقترن بعدالةٍ في توزيع الثروة؟ أم يعرّف نفسه بدلالة الدفاع عن مصالح “الطبقات الشعبية”، فيكتشف أن “الطبقات الشعبية” هذه واصلت نبذه، وأعلت راية من يراهم ضد مصالحها، أكانوا استبداديين إسلاميين أم أسديين؟ وفوق هذا الذي يمكن تسميته “إهانة هوياتية”، يمكن أن نضيف إلى إهانة اليساري “الإهانة السياسية” التي تعني انعدام فاعليته السياسية، وهو في لجّة التحولات الكبرى في بلده.

كتب اليساري كثيراً للثورة، خاطبها في شعره ورواياته وأغانيه، وانتظم في أحزابٍ “ثورية” متفرّغاً لخدمتها وخدمة قضيتها. استشهد اليساري تحت التعذيب، وهو يحلم بالثورة، قضى سنوات عمره في السجون، وهو يحلم بالجماهير التي سوف “تعي ذاتها” يوماً، وتهب لتقتلع “الطاغية”، وتعيد له الاعتبار. خال نفسه على الدوام بطل اللحظات التاريخية المقبلة، ليكتشف، في لحظات “الثورة”، أن القوى التي طالما اعتبرها قوى الماضي أكثر مستقبليةً منه، وأنه بعد كل شيء، قيمة مهملة.

وزيادة في إهانة اليساري، اختار التاريخ أن يجعله مدافعاً عن أعداء الأمس بحماسةٍ يُراد منها أن تستر إذلاله التاريخي. فيقول يساري قديم مبرّراً دفاعه عن جبهة النصرة “يمكن أن يحقّق التاريخ عقلانيته عبر قوى لا عقلانية، إنه مكر التاريخ”. هكذا بكل ثقل فلسفي. ويقول آخر من موقع دفاعي آخر “من المنطقي دعم الاستبداد السياسي بأي شكل ضد هجوم القوى اللاعقلانية، إنها ضرورة التكتيك”. هكذا بكل اتزان. ويبقى السؤال: أين اليسار من الاستبداد والقوى اللاعقلانية؟ ماذا راكم طوال عقود؟ وكيف تتحوّل نرجسية الأمس التقدمية إلى التحاق كسير، في اللحظات الحاسمة؟

حين جاءت الثورة المأمولة، طُرد اليساري إلى الهامش شيئاً فشيئاً، حتى وجد نفسه منبوذاً، إما خارج بلده أو داخل بلده. نبذه قسمٌ من الجمهور على أنه كان “طليعة” المعارضة الحالية التي يقودها الإسلاميون، والتي أفضت إلى دمار البلد، ونبذه قسم آخر لأنه ليس من الإسلاميين. خرج يساريون كثيرون من سورية، ليس فقط لأن أمنهم في خطر، بل أيضاً، وربما الأهم، لأنهم على الهامش، ولا يملكون ما يفعلونه ثمّة للتأثير في الحدث. ومن أراد منهم أن يتمسّك بفاعليةٍ، موهومةٍ على أي حال، راح يحقق وهمه عبر اصطفافه التابع من قوى الصراع الرئيسية التي هي قوى “غير يسارية”. ولكن الحقيقة أن غالبية اليساريين، من بقي في الداخل ومن خرج، يكتفون اليوم بالمراقبة والتساخر والتصارع فيما بينهم على تحليل ما يجري، وعلى تحديد موقفٍ من هذا الحدث وذاك، وعلى مناصرة هذا الطرف أو ذاك، فيما الساحة مشغولة عنهم وعن تحاليلهم.

أكان ذلك من فعل يدهم؟ من الظلم الإجابة بنعم. لم يبخل اليساريون في سورية بشيءٍ في سبيل آمالهم، ولم تكن أخطاؤهم أفدح من أخطاء غيرهم في التحليل أو الممارسة، لكنه التاريخ الذي يضعهم اليوم، وفي هذه المنطقة، على الرف.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى