صفحات الرأي

اليسار العربي «الجديد»: رفض النمطية والديكتاتورية


الثورة السورية أهم حدث عربي منذ سقوط فلسطين

فؤاد سلامة

يأخذ السجال بين اليسار التقليدي واليسار الليبرالي بعداً «عاطفياً» غير مسبوق في لبنان والعالم العربي، وذلك بالتحديد بسببٍ وتأثيرٍ من الثورة السورية باعتبارها أهم حدث في العالم العربي منذ سقوط فلسطين بيد الصهاينة، إن من حيث طول الفترة الزمنية للثورة، أو من حيث حصادها الدموي الرهيب، اللذين لا مثيل ولا معادل لهما في التاريخ العربي الحديث أي منذ قرن من الزمن وربما أكثر. ورغم الشبه الكبير بين النظامين البعثيين، في العراق وسوريا، إن في دموية النظامين البعثيين، أو في أيديولوجيتهما العسكرية الفاشية، أو في طبيعة تركيبهما العائلي ـ الطائفي الأقلوي واضطهادهما للأكثريات الطائفية في البلدين، فإن موقف اليسار بمختلف تنويعاته، اختلف بشكل كبير في الحالتين العراقية والسورية. شكل الموقف من الثورة السورية مناسبة لليسار، وهو في جميع الحالات أقلية اجتماعية غير فاعلة، مناسبة لتبلور يسار جديد ـ قديم، يقطع مع اليسار التقليدي بشكل جذري، يسار يخوض معركة تشكله عبر مطهر الثورة السورية، وتتعمد نشأته كتيارٍ سياسي مدني غير منظّم، بالدم السوري المراق بغزارة قل مثيلها.

في نسخته الجديدة، يتميز اليسار العربي بميزتين، واحدة تتحدد سلباً برفض القوالب القديمة لليسار التقليدي، القوالب التطبيقية النمطية للنظرية الماركسية، أي اللينينية، والستالينية، والماوية، والتروتسكية إلخ. والميزة الثانية تتحدد إيجاباً بتأييد ودعم الحراكات الشعبية في كل مكان في العالم بغض النظر عن الأفكار والمخزونات الثقافية التي تحملها هذه الحراكات الشعبية، طالما أن المحرك الأساسي للثائرين والمنتفضين هو مفاهيم وقيم الحرية والعدالة والكرامة وحقوق الإنسان، قبل الرغيف، أو بالإضافة إليه. وهو إذ يحدد هويته السياسية بانتمائه إلى اليسار كتيار مدني علماني، فمن الطبيعي ألا يطلب اعترافاً بيساريته من اليساريين التقليديين العرب، الذين، وبالاختلاف مع اليسار الأوروبي المتعدد والمنفتح، يصرون من جهتهم وبشكل عفوي، على حقهم الحصري بتوزيع شهادات اليسارية واليمينية، وكأنهم نسوا أن عصرهم إلى أفول بعد انهيار قبلتهم السوفياتية، وتدني حجم وتأثير منظومة الأحزاب الشيوعية بشكل كبير.

لا يجد اليساري الليبرالي حرجاً في دعم المجاهدين الأفغان الإسلاميين ضد الاحتلال السوفياتي «الشيوعي» لأفغانستان، ولا في تأييد الشعب الليبي الثائر ضد الطاغية ولو مدعوماً بطائرات الناتو، ولا في تأييد الشعب العراقي ضد الاحتلال الأميركي الذي جاء في البداية محرراً الشعب من الديكتاتور، وتحول لمحتلٍ عندما ماطل في الانسحاب من العراق بعد سقوط الطاغية. ولا يجد اليساري الليبرالي حرجاً في تأييد حزب الله اللبناني «الشيعي» ضد الاحتلال الإسرائيلي ولا في وقوفه إلى جانبه عندما تشن إسرائيل حرباً تدميرية ضد لبنان وحزب الله. كذلك الأمر بالنسبة لتأييد الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني، سواء قادت «حماس» مقاومة الاحتلال أو حركة «فتح». وهكذا فالموقف من الصراع، أي صراع، يحدده الجانب الأخلاقي والإنساني، وليس المحمول الثقافي، أو الخطاب الذي يبرزه المتصارعون. اليساري الحقيقي هو اليساري المتحرر من القوالب والمؤيد لحركات المقاومة وللثوار في نضالهم ضد المحتلين، وضد الطواغيت على حدٍ سواء، ومن دون تمييز بين طاغية وآخر، شرط أن يكون هناك حراك شعبي فعلي، ثورة أو انتفاضة أو مجرد تظاهرة مطلبية. وهنا الفرق مع اليساري التقليدي، الذي ينطلق أولاً وآخراً في مواقفه الفكرية والسياسية من اعتبارات «أيديولوجية» نمطية، وكليشيهات «ثورية» يتم إسقاطها على أرض الواقع.

عندما تتحول الحركات الثورية إلى سلطة، ويدخل الثوار إلى حكومات، تبدأ محاسبتهم، ليس على نضالهم السابق وأفكارهم ومعتقداتهم، بل على ممارساتهم وقراراتهم في السلطة، وواقع تحولهم لمستبدين. اليساري الحقيقي، الجديد ـ القديم، لا يحمل مسطرة أيديولوجية يقيس بها تناغم أفكار المقاومين والثائرين على الاحتلال أو على الاستبداد، مع أفكاره الخاصة عن الله والدين والشعوب والأمم، بل يجهد لأن تكون لديه مسطرة أخلاقية واحدة يقيس بها موقف الناس، حكاماً ومحكومين، من قيم الحرية والعدالة والمساواة والديموقراطية. مسطرة يقيس بها على الأخص، التزام الحكام التام والفعلي بالقوانين والدساتير المتوافقة مع حق الإنسان بحياة حرة كريمة وعادلة ومن دون تمييز بين المواطنين على أساس من دين أو انتماء. وقبل كل شيء فإن الموقف من الحكام يحكمه شرط أساسي هو تسليم الحكومات بمبدأ التناوب على السلطة في انتخابات حرة وتعددية باعتباره المبدأ الديموقراطي الأساسي لتشكل السلطة.

الفكر اليساري «الجديد» ليس جديداً في الحقيقة، بل هو قديم قدم التاريخ السياسي للفكر اليساري الليبرالي والإصلاحي، الذي نشأ وتبلور في أوروبا القرن الثامن عشر مع الحركات الإنسانوية والاشتراكية المناضلة من أجل تحرير الإنسان من الاستغلال والعبودية والاستبداد. وقد حاول «الشيوعيون البلاشفة» مصادرة الفكر اليساري خلال قرن من الزمن، وسعوا لاستخدام الحركات اليسارية لمصلحة نظام ديكتاتوري هو أقرب إلى الفاشية منه إلى أي نظام آخر. انهيار الاتحاد السوفياتي كان نتيجة محتمة لفشل النظام الشيوعي في منافسة النظام الرأسمالي العالمي من جهة، ولفشله أساساً كنموذج في الحكم والإدارة وفي تأمين الكرامة والحرية للمواطن الى جانب الرغيف والرفاهية المادية من جهة أخرى.

يجدر الإشارة إلى أنه يتم الخلط، عمداً أحياناً، بين الليبرالية اليسارية، والفوضوية، والنيوليبرالية الرأسمالية. نحن نعرف أن الفكر «الليبرالي» هو في الأساس التاريخي والفلسفي لليسار، بما هو سعي من أجل التحرر من الأوهام والخرافات والأساطير الدينية، كما التحرر من القيود المتوارثة المفروضة على الفكر والسلوك الإنسانيين. وبالنسبة لليساري، فإن الأساس المُسلمّ به هو أنه لكي يحصل الإنسان على حقوقه وينعتق من الاستغلال والعبودية كمواطن فرد ينبغي أن تتحقق الحرية والعدالة له ولجميع الأفراد المواطنين في المجتمع: لا حرية للفرد من دون حرية لسائر الأفراد متدينين وغير متدينين، ولا عدالة من دون مساواةٍ وتكافؤٍ في الفرص للجميع. اليساري ينحاز بشكل تلقائي الى جانب المُستَغَليّن والمُضطَهدين والمُستعبَدين، ضد أصحاب الثروة والسلطة الجائرة كائناً من كانوا، علمانيين أو متدينين.

لقد تعرضت فكرة اليسار للتشويه والتحريف لعقود مضت، بسبب النماذج المأسوية والكاريكاتورية التي قدمتها منظومة الدول الشيوعية السابقة والحالية، بالإضافة الى وقوف الشيوعيين أفراداً وأحزاباً في مناسبات عديدة الى جانب سلطات ديكتاتورية قاهرة لشعوبها. وغالباً ما كان سبب انحياز الشيوعيين الى صف الطغاة انخداعهم الظاهري بالخطاب الثوري المعادي للأمبريالية وللغرب، الذي يتقنه ويتفنن في بثه وتكراره قادة عسكريون ومدنيون، لا هم لهم غير تكديس الثروات وإحكام القبضة الأمنية على شعوبهم. وفي الحقيقة، فإن الانخداع بالخطاب الثوري والوطني للطغم العسكرية الحاكمة، كان في الغالب ستاراً لعلاقات كان ينسجها قادة الأحزاب الشيوعية مع السلطات الديكتاتورية ومع قادة الدول الشيوعية، وأما المخدوع الحقيقي فلم يكن غير القواعد الشعبية لتلك الأحزاب الشيوعية، في حال تمتع هذه الأحزاب بقواعد شعبية حقيقية.

حلقة العطب الأساسي في اليسار التقليدي لم تكن يوماً، في رأيي في «الأفكار» ولا في المناهج، رغم أهمية هذه وتلك. حلقة العطب تمثلت على الدوام على مستويين «إراديين»، فكري وعملي. على المستوى الفكري، تجلى العطب في التغييب الإرادي للعقلية النقدية تجاه أيديولوجيا السلطات الديكتاتورية، وآليات تحكمها بالمجتمعات. العقلية النقدية التي هي في جوهر فكرة اليسار منذ نشأته الأولى. وعلى مستوى الممارسة، ظهر العطب في فقدان اليساريين التقليديين، الإرادي أيضاً، للبوصلة الأخلاقية في الصراعات الموضعية: أي الانحياز الطبيعي في أي صراع إلى جانب المحكومين المقهورين والضعفاء، ضد الحكام المستبدين أصحاب الثروة والقوة. هذا الانحياز كان دائماً في جوهر «المبدأ» اليساري، بغض النظر عن الخطاب الأيديولوجي التمويهي للسلطة، أي سلطة، والمحمول الثقافي العفوي للثائرين والمضطهدين. وبغض النظر عن الأدوار الخارجية والحلفاء الظرفيين الباحثين عن موقع أو دور في الصراع . ذلك أن أي صراع لا بد أن يستجلب أدواراً وتأثيرات خارجية، وبالأخص من ناحية الطرف السلطوي الديكتاتوري، الأقدر على التحكم بظروف الصراع، والاستفادة من المعادلات الجيوسياسية من جهة أولى، ومن ترسانة السلاح الثقيل من جهة ثانية، ما يعني أنه الأولى في جميع الأحوال بالإدانة السياسية والأخلاقية في معادلة العنف، وليس الطرف الثائر، الأضعف والأقل تنظيماً، والمدافع عن حقوقه البديهية في حياة حرة وكريمة.

خلاصة: على أنقاض الفشل اليساري، يتشكل اليسار العربي الجديد، الليبرالي اللامركزي وغير المؤدلج، بالتمايز مع اليسار التقليدي البيروقراطي المتكلس، المؤدلج والمتمحور أيديولوجياً حول فكرتي البروليتاريا والأمبريالية كمصدر للخير والشر في العالم. وكما سبق وأشرنا، فإن الخلاف بين «اليسارين» التقليدي والليبرالي لا يقوم بشكل أساسي على الأفكار والعقائد بقدر ما هو على المواقف والإرادات.

اليسار الجديد يترك الأيديولوجيا وقوالبها النمطية لليسار القديم، ويغادر الكليشيهات اليسارية التقليدية من دون ندم. ما يميز اليسار العربي الجديد ـ القديم هو العودة إلى الجذور اليسارية الإنسانية، والفكرة الجوهرية «التقدمية» لليسار: أولاً، بالتموضع ضد النظم الديكتاتورية الأوليغارشية، وضد الاستبداد بكل أشكاله وأيديولوجياته، وبالأخص ضد تجلياته السلطوية في عالمنا العربي. وثانياً، بالإنحياز إلى الحراكات الشعبية السلمية منها والثورية، ودعم مطالبها، والدفاع عن قيم اليسار الأساسية في الحرية والعدالة والمساواة والديموقراطية والمواطنة، من دون تضحية بقيمة من هذه القيم على مذبح السلطة وتكتيكاتها الدعائية.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى