صفحات الرأي

اليسار وتحولات الوعي عند ياسين الحافظ/ منير درويش

توفي ياسين الحافظ يوم 28/10/1978 مخلفاً منهجاً فكرياً لا زال يشكل محوراً أساسياً من محاور النهضة والتقدم التي نطمح لها وتتعزز أهمية هذا المنهج يوماً بعد يوم من خلال الأحداث الشعبية المطالبة بالحرية والحق الطبيعي بالحياة الكريمة التي تشهدها بلدان الوطن العربي منذ نحو ثلاث سنوات.

ولأن ياسين الحافظ اختلف عن كثير من المثقفين والسياسيين العرب في تبني مواضيع فكرية وسياسية لم تكن في اهتمام هؤلاء المثقفين كالثورة القومية الديموقراطية والتأخر التاريخي وتقييم الواقع العربي وفق هذا المفهوم، فقد وصف بالسابح عكس التيار، ولأن التيار العام هو التيار الذي يخدم مصالح الشعب فإن ياسين كان من أكثر المثقفين الذين وقفوا مع هذا التيار من دون الالتزام بالمطالب الشعبوية المبنية على الرغبات والأحلام. ومع موجة الانتقادات الحادة التي توجه الآن لليسار وهي تحمّله هزائم الأمة وتعزيز سلطة الاستبداد وفشل العمل السياسي فإن السؤال هو. أين موقع ياسين من هذا اليسار؟

وفقاً للمفهوم الذي ساد عن اليسار والذي يدعو لرفض الواقع القائم وتحقيق واقع آخر أساسه التقدم والنهضة وما تحمله هذه النهضة من مفاهيم سياسية واجتماعية وثقافية وبالخصوص مفهوم الديموقراطية فإن ياسين الحافظ يمثل واحداً من أبرز أعمدة اليسار، وذلك من خلال تحليله للواقع تحليلاً واقعياً عقلانياً ورسمه برنامجاً فكرياً سياسياً يدعو لقلب هذا الواقع وتغييره مجسداً ذلك في ممارسته العمل السياسي من خلال الأحزاب التي تبنت هذا التغيير. وانتقد بشدة حتى الذين أعلنوا انتسابهم لليسار، لكنهم في الواقع كانوا متصالحين مع هذا الواقع، أو يمارسون فيه طفولة تجعلهم يخرجون التاريخ من رأسهم بدلاً من أن يخرجوا رؤوسهم من التاريخ، كما وصفهم.

منذ بداية تكوُّن الوعي لديه، وكما يذكر في سيرته الذاتية (تاريخ وعي ـ أو سيرة ذاتية) التي رافقت كتابه الهزيمة والإيديولوجية المهزومة، كان همّه ينصب على نقد عمارة المجتمع المتأخر التي تنتج إيديولوجيات متأخرة على كل الأصعدة، وذلك بخلاف أغلب المثقفين الذي كان همّهم ينصب على الاهتمام بالسياسة اليومية للحاكم تأييداً كان أو نقداً متجاهلين الواقع الإيديولوجي المتأخر حتى لهذه السياسة أو غارقين فيها، وهذا ما سهّل عليه الاستعداد للتصالح مع منجزات فتوح العالم الحديث، والتحرر من قيود نظام القرابة العشائري، والانتقال لممارسة السياسة الحديثة. كما أدى إلى تطوره تطوراً تصاعدياً ليرسخ وعياً سياسياً ديموقراطياً وضعه كواحد من كبار المثقفين في القرن العشرين، كما ذكرت إحدى الصحف الغربية في حينها. هذا التطور المثابر للوعي لم يتوقف عند حد وكل ما فيه قابل للنقاش والنقد وهو ما يمثل أعلى درجات الفهم ليس للديموقراطية فحسب بل للآخر المختلف الذي لا يتوقف احترامه والتفاعل مع آرائه عند أي مستوى.

لم يتنكر ياسين وهو في قمة عطائه للأخطاء الفكرية والسياسية التي وقع فيها هو أو من عملوا معه، وذلك بخلاف كثير ممن التزموا اليسار، وكانوا يخفون أخطاءهم أو يتعالون عليها. لم يكن متسامحاً مع مثل هذه الأخطاء تحت أية حجة أو مسايراً لأصحابها من منطلق شعبوي، بدوي، وتدليسي يراكمها بدلاً من أن يواجهها، وكان يرى أن أحد عوامل تطور الوعي تكمن في «الصدمة»، أي تحريك العقل بمواجهــته بالحــقيقة وبيان أخطائه بصراحة قبل تصحيحــها. فهــو إذ يتعرّض في سيرته إلى نقد عمارة المجتمع في كل بلدان الوطن العربي التي تتشابه في السمات الاجتماعية والسياسية، لكن الأنظمة التي تحكم هذه البلدان لا تتفق إلا على ممارسة أقسى أنواع الاستبداد والقمع والفساد والنهب.

صيرورة الوعي هذه، لم تكن بلا ثمن طالما أن مثقفين وكتاباً كثيرين يرون أن التطور في الوعي هو (انحراف عن المبادئ) التي تحولت عندهم إلى صنــم لا يمكن تغييرها أو تبديلها. نقول ذلك لأن هناك من أخذ على ياسين وغيره مثل هذا التحول بسبب عجزهم عن الحوار والنقاش، وبــين هؤلاء من قــرأ ياســين ولم يفــهمه، ومنهم من لم يقرأه أصلاً. رغم أن ياسين لم يخــفِ حديثه عــن هــذا التغــيير بل أعلنه باعــتزاز في عــنوان واضــح في سيرته «الانتقال من معتقد إيماني إلى آخر»، كما لا يخفي ما تعرّض له بسبب هذا الانتقال من اتهامات. وهو يرى أنه «من الصعب على المرء أن يتخلى دفعة واحدة عن المعتقد الإيماني، لكن ذبول معتقد إيماني في عقل من العقول لا يعفيه بالضرورة من انبثاق توجّهات عقلانية واقعية».

مع كل التحول الذي واكب مسيرة ياسين الفكرية والسياسية فإن قضيتين أساسيين بقيتا راسختين في مسيرته وممارسته وهما، الديموقراطية بكل المفاهيم التي تحملها من حرية الرأي والتعبير، وحقوق الإنسان والمواطن، وتحرر المرأة كمواطن له حق المساواة في المجتمع ليس على الصعيد القانوني فحسب بل على الصعيد الفكري و الاجتماعي والسياسي، موضوع الأكثرية والأقلية كحالة سياسية تؤدي لوحدة المجتمع وليس كحالة طائفية أو قومية أو دينية تقسم المجتمع وتفتته، ثم قضية المجتمع المتأخر ونقده لهذا المجتمع والسعي لعلمنته وتقدّمه بحيث يتحوّل إلى مجتمع يحمي المواطنة والمساواة وسيادة الشعب ويعزز مكانة الفرد الملتزم بقيم الشغل وسيادة القانون وربط الكلمة بالشيء، والفكر بالواقع، وإذا كانت هذه المفاهيم غريبة عن مجتمعنا وفق ما هو سائد إلا أنه لن يكون هناك تقدم لهذا المجتمع من دونها باعتبارها عناصر أساسية في الثورة القومية الديموقراطية التي وضع أسسها الفكرية بالتعاون مع عدد من المثقفين.

عند هذا الوعي وهذا التحليل يبقى ياسين يسارياً بامتياز، لكنه اليساري المنفتح على كل الاتجاهات والتيارات، محباً للحرية ورافضاً كل أشكال الاستبداد والاستغلال والنهب، مهما كانت حججها ومبرراتها.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى