اليمن بين الرياض وطهران: لكل مقام مقال/ صبحي حديدي
لو أنّ اليمن المعاصر لم يتغيّر، نحو الأفضل عموماً (ونحو الأسوأ أقلّ، كما يأمل المرء)؛ لتكرر سيناريو أكثر دموية من سوابق أخرى، بصدد التظاهرات الشعبية التي سبقت زحف الحوثيين على العاصمة صنعاء، لأسباب تخصّ سياسات الأسعار وغلاء المعيشة، كما زعموا هم على الأقل. ففي تموز (يوليو) 2005 خرجت تظاهرات واسعة احتجاجاً على رفع الدعم عن أسعار المحروقات، لكنّ الدبابات هي التي كانت في الانتظار، فسقط عشرات القتلى ومئات الجرحى، وشنت السلطة حملات اعتقال واسعة، شملت الأطفال أيضاً.
آنذاك كان اليمن بلداً قائماً على حكم أوتوقراطي عسكرتاري، تعمّ فيه مختلف أنماط الفساد والمحسوبية والولاءات القبلية، وتتنازعه أكثر من حرب أهلية داخلية، بينها واحدة انفصالية أساسية بين الشمال والجنوب سنة 1994؛ فضلاً عن انخراط النظام، بصفة شبه تامة، في ما تسمّيه الولايات المتحدة الأمريكية «الحملة على الإرهاب». لكنّ النفوذ الأمني الأمريكي كان قد بلغ حدّاً من الصلافة جعل صحيفة «المؤتمر»، الناطقة باسم الحزب الحاكم، تتهم السفير الأمريكي في صنعاء بأنه «يتصرّف مثل مندوب سامٍ لبلده وليس كسفير لدولة أجنبية، وآن الأوان لكي يدرك أنّ اليمن بلد مستقلّ ذو سيادة».
لكنّ تلك «السيادة» كانت منتقَصة على يد أطراف أخرى خارجية، وكان اليمن ضحية تجاذبات إقليمية ظلت تديرها المملكة العربية السعودية وإيران، وكانت تخفّ تارة أو تشتدّ طوراً، تبعاً لانقلاب المصالح أوّلاً، ولتبدّل الأولويات واختلاف مضامينها ثانياً. فإذا كانت حقبة ما، سابقة، قد شهدت رعاية السعودية لمركّب قبائلي وإخواني، يمثّله أساساً آل الأحمر وقبائل حاشد وحزب «التجمع اليمني للإصلاح» الإخواني؛ فإنّ الحقبة الراهنة، في ضوء العداء الذي استحكم مؤخراً بين آل سعود وجماعات الإخوان المسلمين، أخذت تشهد صمت الرياض على تمدد الحوثيين (أعداء الأمس)، ما داموا يستهدفون فئات الإسلاميين، كما تشهد تحوّل قبائل حاشد ذاتها وتحالفها مع الخصم الحوثي.
من جانبها، ومنذ سنة 2004، حين اتُهمت رسمياً بدعم الحوثيين مالياً وعسكرياً خلال حربهم الأولى مع نظام علي عبد الله صالح، أحسنت إيران استثمار حقيقة بسيطة على الأرض، سياسية ثمّ سوسيولوجية، مفادها أنّ انتفاضات الحوثيين ضدّ السلطة المركزية لا تحظى بتعاطف الشرائح الزيدية (المنتمية إلى المذهب الشيعي الأمّ)، فحسب؛ بل تلتف حولها فئات يمنية مختلفة: مذهبية شافعية (منتمية إلى السنّة)، أو طبقية واجتماعية (محدودي الدخل والفقراء عموماً)، أو مناطقية (أبناء الجنوب، خاصة بعد أن أسفرت الحرب الأهلية لعام 1994 عن انتصار الشمال ونظام صالح). وبالطبع، من السذاجة تصديق ما تنفيه مصادر ـ حوثية وإيرانية رسمية، معاً ـ حول عدم تدخل طهران في حروب الحوثيين، أو «أنصار الله» كما باتوا يسمّون أنفسهم، وعدم تزويدهم بالسلاح والذخائر، وكذلك الخبراء العسكريين على الأرض كما تردد مؤخراً.
وهكذا، ضمن معطيات هذا المشهد، ليس المرء بحاجة إلى دليل يثبت أنّ المصالح الراهنة لكلّ من الرياض وطهران تحضّ على اتفاقهما، وليس اختلافهما، في الساحة اليمنية؛ حتى مع إقرار الرياض بأنّ التقدّم الحوثي يقوّي شوكة إيران، وإدراك طهران أنها إنما ترث عبئاً عربياً جديداً يثقل كاهل اقتصادها ودفاعها. ذلك الاتفاق أقرب إلى تحصيل الحاصل، إذاً، وهو مآل منطقي بالنظر إلى ثبات ـ أو حتى تبدّل ـ خيارات البلدين الإقليمية، ومقتضيات أمنهما القومي الداخلي كما تبلورت خلال السنوات الأخيرة، خاصة في أعقاب الانتفاضات الشعبية العربية.
تحصيل حاصل، في المدى المنظور، غنيّ عن القول؛ وأمّا بعدئذ، في المستقبل القريب ربما، فلكلّ مقام مقال!