صفحات العالم

«اليوم التالي» في سوريا


ديفيد إغناتيوس

إنه الوقت المناسب لواشنطن للتأكيد على ما تستطيع أميركا القيام به، بدلا مما لا تستطيع فعله، في سوريا. فسياسة أميركا في سوريا محصورة بين مطرقة حتمية رحيل الرئيس السوري بشار الأسد عن سوريا، وسندان ضرورة وقف عمليات القتل هناك. ولكن في الوقت الذي أصبح فيه سقوط حكومة الأسد أمرا مرجحا للغاية، فمن شبه المؤكد أيضا أن أعمال القتل ستستمر في سوريا، على الرغم من الجهود التي تبذلها أميركا وحلفاؤها للحد من الأضرار التي ستترتب على ذلك. ينبغي على إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما بذل المزيد من الجهد لمنع انتشار الأزمة الإنسانية السورية إلى بلدان أخرى، في الوقت الذي تقوم فيه بتقديم المساعدات لإعادة إعمار سوريا.

وبادئ ذي بدء، تستطيع أميركا مساعدة تركيا والأردن عن طريق توصيل الإمدادات الغذائية ومواد الإغاثة لعشرات الآلاف من اللاجئين السوريين الموجودين في هاتين الدولتين، فضلا عن دعم دول الجوار، لا سيما العراق ولبنان، حتى تتمكن من احتواء الاقتتال الطائفي. وبمقدور أميركا مساعدة المعارضة السورية على صياغة خطط واقعية لعملية التحول السياسي، وذلك لطمأنة الأقليات الموجودة في سوريا بأنها لن تتعرض للذبح في المستقبل.

وبالإضافة إلى ذلك، أود وبشدة رؤية أميركا وروسيا تقومان بجهود إنسانية مشتركة في وسط سوريا، وذلك باستخدام السفن البحرية الروسية التي ترسو في القاعدة الروسية الموجودة في ميناء طرطوس السوري. يردد الروس دوما أن هدفهم الرئيسي يتمثل في الحيلولة دون انتشار الفوضى في سوريا، مثلما حدث في العراق عقب سقوط صدام حسين وفي ليبيا عقب الإطاحة بمعمر القذافي. وإذا كانت موسكو تشعر بهذه الرغبة القوية في حماية الشعب السوري، فها هي الطريقة التي تمكنها من القيام بذلك.

كان الإعلان عن حدود قوة أميركا الأسبوع الماضي هو ما دفع المندوبة الأميركية الدائمة لدى الأمم المتحدة، سوزان رايس، للهجوم على روسيا، ووصفها بـ«المؤسفة» و«الخطيرة» و«التي يرثى لها»، وذلك بعد رفض روسيا تأييد فرض مجلس الأمن لعقوبات قاسية على سوريا. وباستخدامها ذلك الأسلوب المستنكر، كانت رايس تحاكي في ذلك رئيستها، وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، التي وصفت الأفعال الروسية بـ«الحقيرة» التي «لا تطاق». إن توجيه الدبلوماسية الأميركية لهذه الألفاظ المهينة لدولة نسعى بقوة لاتخاذها شريكا لنا هو أمر يأتي بنتائج عكسية. كفى عبثا.

والحقيقة، سواء أحب الروس ذلك أو كرهوه، هي أن المعارضة السورية تتعثر في طريقها نحو بوابات دمشق. تتزايد أعداد الشخصيات السورية المهمة التي تقوم بالانشقاق عن النظام السوري، كما يقال إن كثيرين غيرهم في طريقهم للقيام بمثل هذه الخطوة. وفي الوقت نفسه، تشارك أميركا بعض حلفائها في القيام ببرنامج عمل سري وقوي بصورة متزايدة، حيث يقوم السعوديون والقطريون بتزويد المعارضة السورية بالأموال والسلاح، بينما تقوم أميركا بتزويدهم بوسائل الاتصال والخدمات اللوجيستية (وهو ما يعرف بالقيادة والسيطرة)، في الوقت الذي يقوم فيه الأتراك والأردنيون والإسرائيليون والإماراتيون بتوفير الدعم الاستخباراتي على الأرض في سوريا.

وحتى في الوقت الذي تدفع فيه المعارضة السورية الأسد بقوة للخروج من الحكم، ينبغي على المسؤولين القلق حيال ما سيحدث لاحقا، حيث يرجح بعض المسؤولين الأميركيين أن أكثر من 100 من مقاتلي تنظيم القاعدة في العراق ينشطون في سوريا، وأن أعدادهم تتزايد كلما تزايدت حدة القتال. وسيكون من شأن إعلان الجهاد في سوريا تمكين تنظيم القاعدة من أن يصبح له موطئ قدم في ذلك البلد، وهو ما يمثل كارثة بالنسبة للإقليم بأسره. لذا، فإنه ينبغي على كل اللاعبين الكبار في المنطقة – بما فيهم روسيا وأميركا وإسرائيل وتركيا والأردن ولبنان والعراق وإيران – التوحد للحيلولة دون حدوث مثل هذا السيناريو.

ولا يزال بعض الأميركيين يتحدثون عن تدخل عسكري بقيادة أميركا، لكن هذا الخيار ينحسر في مواجهة الواقع، حيث تمتلك سوريا نظام دفاع جوي أقوى من النظام الدفاعي الباكستاني، علاوة على ترسانة من الأسلحة الكيماوية التي يمكن أن تصل إلى عشرات المواقع بسرعة كبيرة. في الواقع، سيكون إدخال قوات عسكرية إلى سوريا صعبا، لكن الأصعب هو خروج تلك القوات. ولحسن الحظ، يبدو أن المعارضة السورية لا ترغب في أن يقاتل حلف شمال الأطلسي بالنيابة عنها.

وأكد أحد المسؤولين الأميركيين على أن اقتراحات التدخل العسكري لا تستوفي الشرط الأول مما وصفه بـ«الاستراتيجية 101»، بمعنى أنه في الحالات غير المؤكدة ينبغي أن تكون المكاسب المحتملة من التدخل أكبر من التكاليف المحتملة بكثير.

وثمة مؤشر إيجابي يتمثل في بدء التخطيط بجدية لسوريا ما بعد الأسد، ففي مطلع شهر يوليو (تموز) الحالي أقرت المعارضة السورية، بمساعدة من أميركا «ميثاقا وطنيا» للتواصل مع الأقليات في سوريا ووضع خطة انتقالية تهدف إلى «إعادة هيكلة» الجيش السوري والحكومة. وفي تلك الأثناء، يقوم معهد السلام الأميركي برعاية مباحثات مماثلة، وفقا لما أعلن عنه الكاتب بمجلة «فورين بوليسي» غوش روغين. ومع ذلك، لا تعدو هذه الجهود كونها مجرد بداية، أما الشيء المخيف في ما يتعلق بالوضع في سوريا فيكمن في أن الأسابيع الأولى بعد سقوط الأسد ستشهد على الأرجح تزايد موجة العنف. ربما لن تتدخل أميركا عسكريا في سوريا كما فعلت في العراق، لكنها ستساعد على حل الوضع السوري على أي حال.

إن أفضل ما يقال عن السياسة الخارجية للإدارة الأميركية هو أنها صبورة، ويبدو أن المسؤولين الأميركيين واثقون من أن العملية الحالية ستؤدي في النهاية إلى سقوط الأسد. ويذكرني الوضع الحالي بالصيف الماضي في ليبيا، عندما كان النقاد يطالبون بالتصعيد لمنع وصول الوضع إلى حالة الجمود، لكن الإدارة الأميركية كانت على حق في هدوئها حينئذ، كما هي محقة في هدوئها الآن.

* خدمة «واشنطن بوست»

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى