صفحات المستقبل

“اليوم منعنا تعرصة كبيرة”

 

فداء عيتاني – ريف حلب:

العائلة تحمل الصفات نفسها، من صغيرها الى كبيرها، عائلة حسن عيدي، كل شجرة العائلة يمكن تمييزها من تصرفاتها واسلوبها التهكمي وكبها لاقداح الشاي سهوا في السهرات المسائية، وتحطيمها للاواني الزجاجية كل حين، اضافة الى تحلق الناس حول افراد هذه العائلة.

شجرة العائلة هي تلك التي قال صبحي لوالده ان برميل الطائرة قد نبشها حين ضرب المقبرة، حينها اتصل صبحي بوالده في تركيا وسأله: جدي حسن عيدي في اية مقبرة مدفون؟ فاجابه الوالد: في المقبرة القديمة، ليش؟ نكتوه (نبشوه)؟ فرد صبحي: نـ… مرتو، ونبشوا شجرة العيلة كلها.

صبحي اعلن التلفزيون السوري نقلا عن الجيش وقوات حفظ النظام انه مات قتلا خلال اشتباك في احد الانحاء، ويومها كنت قد وصلت الى القرية تهريبا من تركيا، واضطررت الى ايقاظ صبحي عن الساعة الواحدة ظهرا لاتأكد انه هو صبحي المقصود الذي ورد كل اسمه، وبالفعل كان هو نفسه الذي اعلن عن مقتله، وبعدها اعلن التلفزيون السوري مرة اخرى مهاجمة القرية وتطهيرها من فلول الارهابيين، بينما كان صبحي مستغرقا في النوم، ومرة اخرى اضطر الى ايقاظ صبحي لاتأكد ان القرية لم تتعرض لاي هجوم دون ان نعلم.

صبحي ذهب في اجازة لزيارة والده في مخيم اللجوء في تركيا، تاركا اشقائه الباقين بين مدير اداري لشؤون الثورة في عدة قرى وبين مدير للمنزل الذي لا يخلو من الزوار الصباحيين كما المسائيين، قبل ان يبدأ قصف الطيران الحربي للقرية ويتم اخلاء المنزل نهائيا من زائريه وسكانه.

خلال شهر رمضان امضى صبحي بضعة ايام في مخيم تركي للجوء، حيث والده مجيد يعتني بنساء واطفال الاسرة المبعدين عن قريتهم بعد اشتداد الاعمال العسكرية في المنطقة، ومجيد ليس من القادرين على الصيام، ببساطة هو يفضل ان يكون الصيام لعدة ساعات، وحين يسأله شبان من القرية الحديثة في الالتزام الديني عما اذا كان يصوم مثلهم يجيب عبر الهاتف: حين كان الصيام في الشتاء لمدة ساعتين لم اصم، اتريدونني ان اصوم الان؟

خلال العصر، وبينما كان صبحي يحاول النوم ليمضي الوقت قبل موعد الافطار وصل احد النازحين الجدد يسأل عمن يكتب حجابات في المخيم. “انا جديد هنا، يمكنك ان تسأل الشيخ” قال صبحي واشار الى والده الجالس في صدر خيمة تحولت كما منزله في القرية الى مضافة لكل العابرين والراغبين في تجاذب الاحاديث.

دخل الرجل على مجيد، وشرح قصته، ابنته تصاب برعب شديد طوال الوقت، وابنه يبرد ويحر في ان معا. “وصلت الى المكان المناسب، خذني الى خيمتك” قال مجيد وتبع الرجل الى خيمته، فاهتم اولا بالطفلة، قال له “لا عليك، احضنها ليلا ودللها قليلا في النهار ولا تدعها تشاهد الكثير من الناس طوال الوقت” ثم اعطى الطفلة خمسون ليرة وقال لها “اشتري سكاكر بالخمسين ليرة”.

ثم جلس قرب الصبي المحرور المقرور، وقال للرجل “لا تعرضه للشمس، ودفئه كل الوقت، وليشرب الشاي والسوائل طوال الوقت” ومد يده واعطى الصبي خمسين ليرة طالبا منه شراء السكاكر مثل اخته.

سأله الوالد “هذا كل شيء؟ الا يجب ان نقرأ لهما الادعية؟” انتبه مجيد ورد “بلى، اكثر من الادعية ولكن بعيدا عن مسامعهما، ولا بأس بتلاوات من القرآن، وخاصة جزء عم”.

قبل ان يغادر مجيد كان الخبر قد وصل الى خيمة مجاورة، فاتى رجل يسأله ان كان يمكنه كتابة حجاب له من الام الظهر، ففحصه مجيد، وطلب منه ان ينام على لوح خشب كل ليلة، وفي النهار ينام عدة مرات على لوح الخشب ايضا، ويقرأ سورا من القرآن لمدة ساعة كل مرة، ثم اخرج من جيبه خمسين ليرة واعاطاها للرجل “واشتري لنفسك سكاكر بهذه الليرات”.

حين عاد مجيد الى خيمته اخبر صبحي عن طفلة تعاني من رهاب القصف ولا تزال بحالة صدمة، وطفل اصيب بضربة شمس، ورجل يعاني من بدايات الام ديسك في العمود الفقري.

اتعلم يا صبحي؟ اليوم اوقفنا تعريصة كبيرة، لو عرف بامر هؤلاء احد كتبة الحجابات لكان اثرى من هذا العمل في المخيم، واذا لم تنفع الاطفال السوائل والدفء والعاطفة سيتنفعهم السكاكر. قال مجيد قبل ان يصمت لوهلة متأملا ويضيف، بكل الاحوال غدا سأنصب اعلاما حمراء امام خيمتنا واكتب لافتة كبيرة “هنا خيمة الشيخ كاتب الحجابات”.

“اليوم منعنا تعرصة كبيرة”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى