صفحات الثقافة

امرأة سورية تهرب من المنفى إلى بيوت اللغة/ جاكلين سلام

 

 

سيرة شخصية وشهادة على تجربة مهجرية

في الفترة الأولى للهجرة لم أكن قادرة على تذوق فنجان القهوة العربية الذي تعودناه في سوريا، صباحاً، مرافقاً لصوت السيدة فيروز. لم أستطع أن أسمع هذا الصوت من دون أن تسقط دمعتي. امتنعت فترات طويلة عن تصفح ألبومات الصور القديمة. وضعت صناديق من الذاكرة في العتمة لفترة لكي أستطيع التنفس في المحيط الجديد من دون حسرات طويلة.

مرة، أتى ابني ومعه تسجيلات كاملة لفيروز، سمعناها معا. بكيت وتقبلت الطريق الجديد بما حمل من عزف ولغة وايقاعات جديدة.

ترك المكان الجديد، بكل مناهله، عميق الأثر في روحي. دعاني إلى مغامرة التحدي والحفر في مكنونات المجتمع وأمراضه وجمالياته. قطعتُ صلات كثيرة على الصعيد الشخصي، وبدأت طريقاً مغايراً كامرأة وأمّ. كان لي تجرية أن أبدأ العيش لوحدي مع ولدي وأشقّ طريقي بصبر وهدوء وحذر لا يخلو من الألم والعثرات والأفراح الصغيرة والكبيرة.

الأمر الذي سهّل علي التجربة قليلاً هو الشبكة الإلكترونية التي جعلتني على تواصل مع الصحافة العربية، وأتاحت لي فرصة  المشاركة في أنشطة افتراضية أدبية وثقافية. كنت مشاركة في حوارات ومنتديات افتراضية عربية، ومن هناك بدأتُ رحلة النشر الإلكتروني وخلق شبكة من المعارف والقراء.

لم أجد أحدا في البيت على الدوام، فذهبت إلى الكتاب، ونسيت نفسي هناك كي أعود إلى ذاتي المسلوبة بأصوات شتى.

باختصار، أنا بخير: صدرت لي خمس مجموعات شعرية ولم أشهد حفل توقيع كتاب أو الاحتفاء بالمناسبة في الوسط الثقافي. لم يتأت لي أن أقرأ نصوصي وأناقش أقراني وأستمع إليهم وتجاربهم. لم أتمكن من اللقاء الشخصي بأي من الجهات الثقافية المعنية بالمهرجانات وتقديم الدعوات. هذا يشعرني بالغصة أحياناً. أعيش على هامش أجندة الجهات الثقافية العربية لكنني في نفس الوقت، أكتب من قلب المتن والهامش وأتابع الحضور على الشبكة الافتراضية.

قلت مرات، وأنا في صدد إصدار أكثر من كتاب شعري، حين يصدر كتابي الجديد سأجوب به البلاد العربية و ربما أجوب به كندا ومدينتي تورنتو. وعلى الأغلب سأكتفي بالنظر إليه وأنا في البيت وألقي التحيات عليكم على الهواء وعبر الفضاء الإلكتروني، هذا الفضاء الذي أتاح لي ،على الأقل، إجراء الكثير من الحوارات التي نشرت في عشرات الصحف على مدار الوطن العربي، كما أتاح لي أن أحاور الآخرين وأكتب عن تجاربهم سواء من الكنديين أو العرب.

أن تكون مهاجراً وتبدع بلغتك الأولى، يعني أن تكون مجهولاً في لغة البلد الذي أنت تأكل خبزه وتتابع أخباره كل يوم. المكان الذي يلسعك جليده وتأكل من قلبك جدرانه بلغة واضحة موجعة.

تجربة الهجرة تكسب التجربة الإبداعية عمقاً ووعياً إضافياً حاداً وله مفارقات إذا امتلك الكاتب (ة) مهارات الصنعة الإبداعية إلى جانب الاشتغال على تعميق الأدوات والمناهل المعرفية المتاحة في كل مرحلة من مراحل الترحال والغوص في المجتمع الجديد. أجد أن كتاباتي بصيغها الشعرية والسردية والبحثية تتفرع في أكثر من مدار جغرافي وتمتد إحداثياتها في محاور تتجه نحو الشرق والغرب، الداخل والخارج، البيت الأول والتالي المفتوح على أكثر من نبع معرفي.

الآن متعالق بخيوط الماضي والغد الملتبس. في مرحلة من مراحل الهجرة لا ينجو الفرد من المقاربة وربط كل ظاهرة أو قراءة بشيء من الماضي. وفي غمرة هذه المقاربات نفقد نكهة الانغماس الكلي في ترف اللحظة بما هي عليه. ويأتي وقت ويتعب من التدقيق والتشبيه.

مضى قرابة 20 عاماً منذ هاجرت من سورية إلى كندا، وأجد أنني ولدتُ من جديد بصيغ كثيرة. ولدتُ في اللغة الأخرى، وتعلمتُ أبجدية المكان الجديد، الطرقات، المواصلات، العلاقات العامة والخاصة. تواصلتُ مع الواقع الثقافي المهجري العربي والكندي الإنكليزي. ما زلت أتعلم وأكتشف طيات من خبايا الذات المضمرة.

***

هل تستقر الروح المهاجرة، المنفية اللاجئة إلى حياة ومكان آخر ولغة أخرى؟

الاستقرار ليس في متناول اليد والروح والذات المبدعة في أغلب الحالات. لكنني تآلفت مع مظاهر كثيرة يومية. صرتُ أكثر تسامحاً مع نفسي ومع الآخر. تقبلت الاختلاف ووجدت نفسي في حوارات  مع آخرين على النقيض تماما من مبادئي الفكرية. تعلمتُ أن أعيش كفرد، أفكر كفرد واقترح على ذاتي ما يجعلني متآلفة أكثر مع مفاهيم الفرح والحب والجمال. اكتشفت بعد تأمل طويل ذاك السحر الذي تهبه الطبيعة مجاناً. تعلمتُ أن ألتقط صور الحياة اليومية وأكتبها من جديد في صيغ شتى.

هذا الترحال الدائم يكسب التجربة الإبداعية غنى وتنوعا، وإن كان الواقع اليومي متعباً معنوياً وعاطفياً وجسدياً أيضاً. بعض الألم والخسائر تحفز على شحن الذات من جديد. وليس الارتكاس ذاته لدى الجميع. هناك من ينسحب كلياً إلى داخله وينكسر ويتشظى إلى قوقعة الموت-في الحياة.

الحياة في هذه الأمكنة ليست رحلة رفاهية واستجمام. إنها مطحنة ومعركة يومية مع الوقت، مع الماكينة الاقتصادية التي تحاول أن تبتلع روحنا ووجوهنا وعقولنا. إنها محطة غنية بالمتناقضات. أضف إليه أن الشتاء الطويل البارد الجليدي معاناة يومية وتترك أثرها الواضح في كل ما أكتب.

أزمنة ومحاور شرق– غربية

أحاول يومياً خلق قاعدة للتوازن بين هذا وذاك. المتغيرات كثيرة وتطاول العلاقات الحميمة والخاصة. في الجلسة الواحدة يصدف أن يجتمع أصدقاء من دول العالم في مكان عام أو في زيارة شخصية عائلية. تتقاطع اللغات واللهجات ووجهات النظر وتتنافر. الأزياء وأطباق الأكل تتنوع ويتجه الحديث نحو الذاكرة والتجمعات الاجتماعية القديمة. الكتب والصحف ووجهات النظر حول ما يجري من حروب اليوم تتقافز إلى مائدة الحديث وتربكنا أحياناً. نختلف في ما بيننا، نختلف مع أنفسنا أيضا.

لم يكن الماضي سعادة ولن يكون المستقبل جنة. العالم يشهد مخاضاً عسيراً لا أحد يعرف أين وكيف سينتهي. وأنا جزء من هذه الدوامة المريعة . لا أكاد أتبين خطوتي غداً لكنني في صحوة الروح أقول لذاتي سأعيش اللحظة كما هي، بما هي عليه.

أقول: سأكتب ولن يصبح العالم أفضل. وهذه الغربة تجعلني أكثر التصاقاً بالأشجار واللجوء إلى البحيرة والطيور وتأمل الأمكنة لوهلات. هذه الحياة تبدو لي كما لو أنها خطوات في صداقة الموت. سنمشي إليه بكل أزمنتنا ونهدي الموت جثة معبأة بالغربة والأحلام المعلّقة.

الهوية والخليط الثقافي

تصبح الهوية انتمائي إلى خانة الإنسان والإنسانية. لم أعد سورية خالصة، ولا كندية تماما. جزء مني مطبوع بالجينات السورية ثقافة ولغة ومكونات. جزء مني صار كندياً بحكم التجربة والمعرفة واللغة والعمل اليومي. ترعرع فيّ جزء آخر هو حصيلة تلاقح هاتين الثقافتين، اللغتين والمكانين. التجديد هويتي والتجدد سيرتي اليومية. هذا يجعل إجاباتي وأسئلتي اليومية والوجودية أكثر اتزاناً بتصوري.

تتبدل إحداثيات الهوية، كلغة ومكان وزمان ومعرفة.

لقد صارت العلاقة مرنة وممتعة وذلك بحكم اشتغالي اليومي بالترجمة الفورية والتحريرية بين العربية والإنكليزية. أستعمل اللغتين في نفس الجلسة مع عدة أشخاص حين أؤدي عملي كمترجمة محترفة. حيازة  مؤهلات جيدة في أكثر من لغة فتحت أمامي باباً وسردابا ومغاور. انكشفت أمام عيني طبقات من القضايا والمشاكل الاجتماعية والإشكالات، التي يعيشها الأفراد القادمون من الشرق. اشتغالي في حقل العمل مع ضحايا العنف الأسري والمجتمعي يؤكد لي أن اللغة العربية  أيضا بحاجة إلى تحرير. الخطاب العربي بحاجة إلى إعادة نظر. إنه خطاب بطريركي ديماغوجي ومبهرج.

لاحظتُ أن بعض المهاجرين العرب القادمين إلى الغرب ومن حملة الشهادات العالية، حين يشتغلون مع  مترجمة عربية يظهرون شيئا من العدائية والاستخفاف. ربما مرد ذلك الكبرياء الأجوف أو التعالي، أو نقص في اللباقة. أو ربما مرده موروث ثقافي محمول يبرر لمثل هؤلاء ممارسة عنف مبطن رمزي قد يظهر في لغة الجسد أو في نبرة الخطاب في أثناء جلسات العمل. وبشكل عام هذه المزاوجة بين لغتين تتيح لي الغوص في كتب ومجالات لم تصل بعد إلى المتلقي الشرقي.

ولكن بالنظر إلى الواقع الشرقي الحالي ومعاينة مظاهر العنف الفظيع المرتكب في الساحات العربية الواقعة في دوامة الحروب والاقتتال الطائفي والديني والمدني، أجد أن الأمل ضعيف بأن تحدث اللغة تغييراً نوعيّاً في بنية هذه المجتمعات التي عادت إلى ممارسة السبي والاغتصاب الجماعي والقتل على الهوية وما شابهَ!

لست مجبرا على الاندماج مع المجتمع الجديد ولكن!

تختلف تجربة اللجوء والمنفى من فرد إلى آخر. أنا اخترتُ الاندماج والأخذ من الثقافة الأجنبية ما أمكن. من يُرِدْ أن يتقوقع على ذاته وفكره ولغته ودينه وتقاليده، من الأفضل أن يبقى في بلاده. من يُرِدْ أن يهاجر ويعيش في الغرب، عليه أن يكفّ عن احتقار ثقافة الغرب وتقاليده. وليس هناك مجتمع يخلو من العيوب والنواقص بالطبع.

شخصيا، أسعى منذ قدومي إلى الآن إلى تطوير لغتي والاطلاع على الإصدارت الأدبية والفكرية التي تصدر في كندا بوجه الخصوص. وأحاول تقديمها في عروض للصحافة العربية وأحيانا عبر الترجمة. ولربما يؤثر هذا في المحصلة على أسلوبي في الكتابة والمواضيع التي أطرحها، سواء عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو عبر الصحافة المطبوعة في العالم العربي والمهجر الكندي.

لكنني أعرف كتاباً عرباً هاجروا إلى الغرب ولم يهجروا الشرق. بعضهم رفض أن يتعلم اللغة، أن يذهب إلى العمل، وأن يصبح جزءاً من الخليط الثقافي المتنوع في كندا. بعضهم عاد إلى الشرق بكامل الرغبة.

وهناك فئات من المهاجرين رغم أنهم متعلمون تراهم يجبرون أسرهم وأولادهم على العودة إلى الوطن، حفاظا على “عفّة البنت” واللباس التقليدي والعادات الأخرى.

* شاعرة وكاتبة ومترجمة سورية – كندية.

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى