امراض فيسبوكية معيقة للحوار
حازم نهار
إتقان الحوار ليس أمراً سهلاً بعد رحلة أربعين عاماً من امتناع الكلام، فالتعثر والإرباك متوقعان وطبيعيان. وهذا ما حدث لدى السوريين مع هدم قطاع كبير منهم لصنم الاستبداد ومقولاته الأحادية في دواخلهم. وبالمقابل يمكن اكتشاف وجود حالة صحية من التعدد في الرؤى والمقاربات، لكنها ما تزال فوضوية وهشة، ولم تتطور بعد إلى اتجاهات سياسية وفكرية واضحة المعالم، وهذا بالتأكيد غير ممكن من دون التدرب على الحوار وتغذية النفس والعقل بالثقافة والمعرفة. لكن للأسف، لم يكن الأمر ذاته عند شريحة واسعة من الموالين للنظام الذين لم يتقنوا طوال عامين سوى الشتائم، وبعضهم ما يزال يتفنن في أساليب “الزعران” التي اعتاد عليها.
كان يمكن أن تتطور حوارات السوريين بعد انطلاق الثورة لو كان هناك نخبة ثقافية سياسية حقيقية، لكن هذه النخبة ما كان متوقعاً وجودها بعد أربعة عقود من احتلال النظام وثقافته الأحادية والضحلة لكل الساحات. مع ذلك، فغياب هذه النخبة في الحصيلة ساهم في الإبقاء على الحوار الذي انطلق بين السوريين هشاً ومفتقداً للنضج، حتى أنه لم يفضِ إلى نتائج أو قواسم مشتركة أو إلى أنماط عمل مشتركة قابلة للاستمرار. هنا يمكن القول أن هدم صنم الاستبداد لم يرافقه حتى اللحظة هدم أركانه وثقافته وآلياته، بل لم يفعل حتى الآن عند قطاع واسع سوى أنه أطلق القدرة على الكلام ليس أكثر.
يمكننا اكتشاف هذه الحقيقة بوضوح من خلال متابعة تعليقات وحوارات السوريين على الفيسبوك والشبكة العنكبوتية، إذ يمكن ببساطة تحديد عدد من الطرائق المعيقة والسلبية في الكتابة والتعليق والحوار، وبالطبع لا يمكن إنكار وجود مساحة مدهشة من التعبير الغني المليء بالحياة والقابلية للتطور عند البعض. من الأمراض الفيسبوكية المشاهدة نستطيع أن نذكر ما يلي:
التعامل غير الديمقراطي؛ فالرؤية الغالبة هي الرؤية الذاتية التي تعتبر نفسها محقة على الدوام، ولا تتفهم التباينات والاختلافات وتعدد زوايا النظر. مثل هذه الرؤى تمنع البشر من التعلم والاستفادة من بعضهم بعضاً، بل إنها تعمل على نمو عداوات شخصية غير مبررة وحالات من الاتهام والتشهير المتبادل من دون أسانيد.
استمرار ثقافة التشبيح؛ فالتشبيح ثقافة عاشت داخل السلطة تماماً كما عاشت خارجها في المعارضة والمجتمع، ومن يتابع القنوات الفضائية وصفحات الفيسبوك يجد آثار ومرتكزات هذه الثقافة واضحة، حتى أن هناك ظاهرة باتت معروفة باسم “الشبيحة الجدد”، وليس من الحكمة القول أن هذه الثقافة انتهت بمجرد الانحياز للثورة. الثورة عملية مركبة من الهدم والبناء، ففي سياق الهدم نحتاج إلى عملية بناء موازية، ولا يمكن بداهة البناء بأدوات التشبيح ذاتها التي نحاربها.
افتقاد شروط النقد؛ فالنقد فعل مسؤول يشترط وجود مبدئين متلازمين هما المعرفة والأخلاق، ومن دون هذين الشرطين يتحول النقد إلى حالة بائسة من شقاء الوعي. كذلك، فالنقد مهم في كل اللحظات، وهذا ضد الرؤى التي سادت خلال العامين الماضيين التي ترى أن النقد ضار بوحدة المعارضة وأنه ينبغي التركيز على الهدف الأساسي والانتهاء من مشكلتنا الكبرى أولاً. إذ لا مشكلة في النقد طالما كان في حدود الاحترام والأخلاق والإحساس بمسؤولية الكلمة، فليس هناك مركبة بإمكانها السير دون أن ترمي خارجها كل ما يعيق حركتها السوية ويشوِّهها، وهذا ممكن من خلال النقد الجاد والمسؤول الذي يحتوي في داخله البدائل بطريقة أو بأخرى.
نقص المعرفة؛ لا شك أن الثورة أتاحت للجميع المشاركة، وهو أمر حسن بالتأكيد، لكن هذا يحتاج إلى تغذية معرفية، ومن دونها لن يحدث تطور في الرؤية والحوار. فالجميع صار يفهم ويعرف بكل شيء فجأة، حتى في الأمور التي تحتاج إلى الكثير من التدقيق والتفاصيل لإبداء رأي واضح فيها واتخاذ موقف صريح منها، كالحظر الجوي، المنطقة العازلة، التدخل العسكري، العلاقات الدولية، الحل السياسي…إلخ، وهي حالة أقرب ما تكون إلى “البلاهة السياسية”. قلائل من يعترفون بنقص معرفتهم أو بعدم اطلاعهم، وقلائل من يبذلون جهداً كي يتعلموا ويعرفوا.
ضعف التراكم والذاكرة؛ إذ يغيب الخط العام الواضح عند معظم المشاركين بالكتابة والتعليق، وهذا يجعل المرء ينتقل من موقف إلى آخر بسرعة، فمرة يكون مع التسليح وأخرى مع السلمية، وفي لحظة ما يدافع عن جبهة النصرة وبعد فترة ضدها، وهكذا. بالطبع يشير هذا التبدل السريع إلى ضعف الرؤية ونقص المعرفة، بما يعني ضعف إمكانية تشكل هوية فردية محددة قابلة للنمو بشكل صحي.
سيطرة الانفعالات؛ وهنا تكفي متابعة الردود على أي فكرة (أو بوست) لنكتشف أن معظمها لا علاقة له بالفكرة المكتوبة، وأحياناً تنم هذه الردود عن قراءة غير دقيقة لما هو مكتوب وتحمِّل النص المكتوب ما لا يحتمل، أو تعبر عن هواجس شخصية سريعة خطرت لدى أحدهم تشير إلى مستوى عال من التوتر وعدم الاتزان. كما تأتي بعض الردود حاملة لشحنة شخصية انفعالية أو عدائية، وأحياناً استعراضية، وهذه مأساة حقيقية تعبر عن شقاء الوعي وبؤسه.
الاعتماد على الشائعات؛ فقد كانت الشائعات خلال العامين الماضيين، وما تزال، أسلوباً متبعاً لدى البعض في نقل الأخبار والآراء، وقد يأخذ البعض ربع الحقيقة وينسجون حولها قصصاً وحكايات شتى تخص الأفراد والقوى والتوجهات، وبالطبع هذه الطرائق في التعاطي مع الأمور لا تزيدنا إلا تشويشاً وضياعاً. باعتقادي يمكن الوصول للحقائق إما بالذهاب نحو النبع كبديل للكلام المنقول والشائعات أو بالتحليل الموضوعي الهادئ لكل ما نسمع ونقرأ ونرى.
الانشغال بالأشخاص وتقويمهم؛ إذ نلمس في أحايين كثيرة حالة من اللامسؤولية في الكتابة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث الجميع هاجسه الأساسي تقويم الجميع وحسب، وليس نقاش القضايا والأفكار أو إنتاج أفكار جديدة. فالجو العام مغرم بتحديد الأسماء وتشريحها أكثر من الأفكار، وهو ما أدى إلى نمو حالة معيقة من المهاترات والتشهير والفضائحية. وجوهر هذه الظاهرة هو الضحالة الفكرية والسياسية والنفسية، التي تدفع المرء، في محاولة لتغطية العجز الشخصي، نحو الذهاب باتجاه شتم الآخرين وتوجيه الاتهامات المختلفة لهم من دون سند أو دلائل.
افتقاد التواضع؛ التواضع شيء مفتقد عند الأغلبية، فكل فرد يتعامل وكأنه قائد أو محرك لثورة السوريين، ويضع نفسه فوق الجماعة والبلد والثورة، والأمر ذاته ينطبق على القوى السياسية، وتكون نتيجة ذلك أن لا أحد يقول كلمة طيبة بحق الآخر، وبالتالي نعجز جميعاً عن العمل معاً. التواضع، بمعانيه الأخلاقية والسياسية، بداية جيدة للعمل المشترك والجماعي، ولنترك للمستقبل مهمة تحديد قيمة أدوارنا جميعاً وفاعليتها، فهذا سيكون في صالح الجميع والبلد.
ربما كان للظروف التي أحاطت بثورة السوريين دور كبير في إعاقة نمو حوار حقيقي بينهم، بخاصة أنهم يحاولون التحاور وإبداء الرأي في ظل استمرار النظام بقتلهم وتشريدهم وتهديم مدنهم وقراهم، وفي أجواء إقليمية ودولية معقدة تعصف ببلدهم، وفي ظل خروج كل أمراضهم المجتمعية إلى السطح التي غذاها النظام طوال أربعين عاماً. مع ذلك نعتقد أنه من الضروري، بعد عامين ونيف على ثورتهم، البدء بالسير خطوات جادة في اتجاه حوار مسؤول وجاد ومثمر.
المدن