انتصاراتهم وهزائمنا…!/ ماهر مسعود
لم يكن انتصار السيد حسن نصر الله في حرب الـ2006، انتصاراً إلهياً وحسب، بل إن الطبيعة «النورانية» لذاك الانتصار حجبت عنه رؤية العدو وجهاً لوجه مرة أخرى، وربما إلى الأبد، بقرارات دولية ظالمة أبعدته إلى ما بعد – بعد قوات «اليونيفيل» التي انتصبت حاجزاً منيعاً أمام رغبته الحارقة بتحرير فلسطين.
وفي عصر سابق للنصر الإلهي كانت حرب تشرين «التحريرية» بمثابة تحرير شامل لقلعة الصمود والتصدي من كل الالتزامات والمسؤوليات الملقاة على عاتقها تجاه أرض الجولان المحتل، لا بل إن الثمانين ألف سوري الذين نزحوا من مدينة القنيطرة المحررة والمدمرة وقتها، كان يجب تحريرهم من أرضهم في ضواحي الحجر الأسود والسبينة وغيرهما مرة أخرى خلال الثورة السورية، ليكتمل المعنى الحقيقي للتحرير، طبقاً لتعريفه في سجل الممانعة وخيالها الخصب.
لكن ضمن الطريقة النسبية لرؤية الأمور يمكننا القول أيضاً، إن النصر الإلهي الذي دمر لبنان، وتحرير القنيطرة الذي جعل من مقولة الرد في المكان والزمان المناسبين أبدية، هو انتصار مهم وفعلي، ولكن بعد إضافة شيء درامي بسيط له، وهو أنه نصر يحاكي انتصار العبد واحتفاله برفع رأسه المطأطئ في وجه سيده الظالم لمرة واحدة في حياة القهر والعبودية. وإن كان بعدها قد أكل ألف كفٍّ لجرأته في النظر مباشرة إلى وجه السيد، أو مُنع طيلة حياته من إعادة ما فعل، فقد اكتفى بشرف الفعل ومأساته، وله كل الحق في التفاخر بنصره الإلهي، ولكن بالتأكيد ليس أمام سيده/ العدو.
يكمن الوجه المأسوي في الانتصارات الإلهية لنصر الله ورعاته في دمشق وطهران، في أنها أسست لثقافة تعويضية هائلة عن الهزيمة التاريخية طويلة الأمد لأوطاننا وشعوبنا، واستبدالها بمشاعر النصر الوهمية والمنتجة لأعلى مستويات احتقار الذات الفردية والجماعية مقابل تحويل نفسي لمشاعر الكراهية الشديدة الناتجة من احتقار الذات وتعاليها نحو كل الذين لا يعترفون بالنصر الموهوم، طالما أن هؤلاء «بالجمع» هم المرآة التي تعكس صورة الهزيمة الواقعة كما هي.
وهذا الاستبدال الثقافي (وهو لا يتعدى كونه استبدالاً ثقافياً ونفسياً) للهزائم وتصويرها على أنها انتصارات، هو ما قاد ويقود لإنكار الواقع وعدم تبين مشكلاته، ومن ثم الانفصال عنه، وهو المؤسس للعُصاب الجماعي الذي أصاب الفئات الداعمة لنصر الله والأسد في حربهما المشتركة ضد الشعب السوري… والشعب اللبناني. وهو ما يبرر تلك السهولة الاجتماعية والثقافية والأخلاقية في قبول تلك الفئات لتحويل سلاح «حزب الله» ضد الداخل اللبناني في 2008، ثم تحويل السلاح والجنود نحو أرض سورية وشعبها المضيف لتلك الفئات عينها في حرب 2006، وهو ما يصدق في سورية على تسليم السلاح الاستراتيجي أو تدمير مدن سورية بأكملها وتهجير سكانها من دون أن يرفّ جفن الداعمين للأسد، بحيث تبدو الصورة الذهنية المقلوبة للهزائم والانتصارات وكأنها درعٌ نفسيٌ لا يحول ولا يزول.
أمام هذا الواقع المقلوب والمأسوي حقاً يكمن سر الوجع في الثورة السورية، التي حاولت وما زالت تحاول بكل بؤسها وبأسها إعادة نصب الواقع على قدميه بدلاً من رأسه، وإزالة قشرة الممانعة والمقاومة الهشَّة عن العمق الطائفي المهزوم واللاوطني لأصحاب تلك المقولات، ولتنطق بصرخة مدويَّة كلمة حق غائبة: إن انتصاراتكم هي هزائم ندفع ثمنها نحن… وأنتم، أولادنا… وأولادكم، وإن هزيمتكم هي الانتصار الوحيد الممكن لتحيا شعوبنا ودولنا وطوائفنا مجتمعة حياة قابلة للحياة، فمن قال إن الشيعي اللبناني تمثله طهران أكثر من لبنان ويحلم بخميني في لبنان، ومن قال إن الأقلوي السوري يحلم بأكثر من مواطنة متساوية تم سحقها لعهود أربعة من حامي الأقليات.
إن النصر الرباعي (إيراني، لبناني، عراقي، سوري) في يبرود، نصر ما فوق وطني، بأيدٍ ما دون وطنية، بل هو هزيمة كبرى لا لأهل يبرود، ولا للثورة السورية المستمرة، ولا حتى للإسلاميين الذين لا تزيدهم الهزائم إلا تكاثراً وتطرفاً، بل هزيمة للوطنية السورية التي تتضاءل فرصها كلما سقطت مدينة أو دمرت قرية. وعلى رغم الصمود الأسطوري ليبرود بالمقارنة مع صمود المنتصر الإلهي في 2006، لم نسمع ثائراً سورياً واحداً تبجح بنصره الإلهي كما فعل الحلف الرباعي دائماً، وذلك ليس لعدم رغبة الكثيرين بذلك، لا سيما الإسلاميين منهم، بل لأن الحامل الثقافي – الإجتماعي للثورة لم يعد يسمح بهذا التعالي الأجوف عن الواقع المرير. فالثورة وجدت لتصحيح الصورة التي خلقها مربع الكذب الممانع عن النصر والهزيمة.
* كاتب سوري
الحياة