انتصار ثورة 15 شباط و«مؤامـرة» الناتو عليها
جلبير الأشقر
-1-
إنّ سرعة انتصار الثورة في طرابلس، إثر الانتفاضة التي انطلقت داخل العاصمة مساء السبت 20 آب، ودخول الثوار إليها من ضاحيتها الفقيرة، وسط تهليل شعبي، ذكّرنا بغبطة التونسيين والمصريين عند سقوط الطاغية، في كلّ من البلدين. فاجأت تلك السرعة الجميع، بمن فيهم حلف شماليّ الأطلسي (الناتو). والحال أنّ سرعة الانتصار في طرابلس خالفت المخطط الذي وضعته المنظمة، مهما ادّعى بعض أطرافها في نسب الانتصار إلى دعمها. فما هو ذاك المخطط الذي كانت الناتو قد رسمته؟
فلنبدأ بما قاله بعض المنتمين إلى أوساط الحلف الأطلسي ذاتها. ماكس بوت منهم، وهو أحد المحافظين الجدد البارزين، ومؤرخ عسكري مشهور بتأييده لـ«نشر الديموقراطية» بقوة السلاح، وقد دعا بحماسة إلى تدخل عسكري أميركي أكبر وأوسع نطاقاً في ليبيا. في مقالة له نشرتها «وول ستريت جورنال» في 19 تموز 2011، أشار إلى تعليق في صحيفة «فايننشال تايمز» (15 تموز) قارن بين حملة القصف الجوّي في ليبيا وحرب كوسوفو الجوّية في 1999، كي يبيّن «نقص القوة النارية في عملية ليبيا». فأثنى بوت على المقارنة، مضيفاً إليها المزيد من التفاصيل: «كانت حرب كوسوفو ذاتها حرباً محدودة. إلا أنّه بعد مرور 78 يوماً، كان حلف شماليّ الأطلسي قد أرسل 1100 طائرة ونفذ 38004 طلعات جوية. أما في ليبيا، فقد أرسل 250 طائرة فقط، ونفذ 11107 طلعات جوية. وليس من باب الصدفة أن يقرر سلوبودان ميلوسيفيتش التخلّي عن كوسوفو بعد 78 يوماً، بينما لا يزال القذافي متربصاً بالسلطة بعد مرور 124 يوماً حتى الآن».
مفارقتا حملة الناتو في ليبيا
يمكننا التوسع في المقارنة؛ ففي «عملية عاصفة الصحراء» التي شنّتها قوات التحالف الذي قادته واشنطن ضد العراق في 1991، كفت 11 يوماً لتنفيذ عدد من الطلعات الجوية يعادل التي نُفّذت فوق ليبيا في 78 يوماً. وقد بلغ العدد الاجمالي للطلعات الجوية في 43 يوماً من «عملية عاصفة الصحراء» 109876، أي ما معدّله 2555 طلعة جوية في اليوم الواحد. بعد التدمير الناجم عن تلك «العاصفة» وحملات القصف الأخرى خلال سنوات الحصار الاثنتي عشرة بين 1991 و2003، نُفّذت 41850 طلعة جوية في الأسابيع الأربعة الأولى مما سمّي «عملية تحرير العراق». من بين هذه الطلعات، 15825 طلعة هجومية، ما يعادل 565 طلعة في اليوم الواحد. بناءً على ذلك، كان أندرو غيليغان محقاً في تعليقه في مجلة «ذي سبكتاتور» (4 حزيران) البريطانية عندما كتب: «بالرغم من جميع التعاويذ المعهودة عن هجمات «مكثّفة» و«القصف الأعنف إلى الآن»، فإنّ القصف في ليبيا كان ولا يزال خفيفاً نسبياً. وقد بلغ عدد الطلعات الهجومية للناتو خلال العملية كلها معدّل 57 طلعة في اليوم الواحد، أي أقل من نصف معدّل الطلعات التي نفذها الحلف في المهمة المماثلة في كوسوفو، وجزء بسيط مما فعلتاه الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا في العراق».
والحال أنّ إرغام أي ديكتاتور على التخلي عن الحكم، يتطلب ممارسة ضغط أكبر بكثير من إرغامه على التخلي عن جزء من أرضه. فمنذ أن غدت فرص القذافي في إعادة السيطرة على بنغازي أقرب إلى الصفر، سرّه بالتأكيد التخلص من المدينة الثائرة، ومعها كامل المنطقة شرقي أجدابيا، لو استطاع لقاء ذلك إنقاذ عرش «ملك ملوك أفريقيا» الذي شُغل من أجله منذ 2008 بشراء مبايعات بعض رجال قبائل أفريقيا جنوبي الصحراء. والرغبة في السيطرة بلا منازع على غرب ليبيا هي التي جعلت القذافي يصبّ قدراً عالياً من القوة العسكرية ومن العنف في محاولة للاستيلاء على مصراتة، أهم المدن التي أحكم الثوار السيطرة عليها في الغرب، ما منع القذافي من إنجاز التقسيم الفعلي للبلاد. وللسبب عينه، أصرّ الثوار على الصمود في مصراتة، رغم العنف الهائل الذي انصبّ عليهم، ورغم إتاحة الفرصة أمامهم لإجلائهم بحراً مع باقي سكان المدينة، على غرار آلاف المهاجرين والمصابين.
وقد دحض الثوار جميع الاتهامات التي سيقت ضدهم في البداية بأنّهم يعتزمون تقسيم البلاد، من خلال عزيمتهم وإصرارهم في القتال لتحرير بلادهم بأكملها من ديكتاتورية القذافي. جرى كل ذلك رغم دفع الثوار ثمناً باهظاً بسبب التباين الشاسع بين قواتهم البرّية وقوات النظام: تباين في الدروع والآليات، والمدفعية، والصواريخ، والمقاتلين المدرّبين، لم يعوّض منه تدخل قوات الناتو إلا جزئياً. وقد شدّد المراسلون الصحافيون الموجودون على مختلف الجبهات في ليبيا، على سوء تسليح قوات الثوار وتدريبها وتنظيمها، وعلى كون غالبيتهم من غير المحترفين. وأبدوا إعجابهم بالتفاني المذهل للعدد كبير من المدنيين الذين تحوّلوا إلى مقاتلين في سبيل تحرير بلدهم بأكمله. يفسر ذلك إصرار الثوار على مواصلة القتال، في ظل وجود ظروف صعبة كهذه، في مواجهة قوات تتمتع بتسليح وتدريب جيّديْن ويكافئها نظام القذافي بسخاء، لحثّها على الاستبسال.
الأسئلة الجوهرية التي تتبادر إلى الذهن هي الآتية: لماذا شنّ الحلف الأطلسي في ليبيا حملة جوّية ذات كثافة منخفضة، مقارنةً ليس فقط بالحملة الجوية التي رافقت حرب الاستيلاء على العراق، وهو بلد غني بالنفط على غرار ليبيا، بل أيضاً بالحرب الجوية على منطقة كوسوفو غير المهمة اقتصادياً؟ ولماذا يحجم الناتو في الوقت عينه عن تزويد الثوار بالأسلحة التي عبّروا عن حاجتهم إليها تكراراً ومراراً؟
ظاهرياً، تبرز هنا مفارقتان: المفارقة الأولى أنّه جرى التشديد في حربي العراق وأفغانستان، اللتين قادتهما واشنطن، على «تأميم» النزاع (على غرار «الفتنمة» التي سبقت الانسحاب الأميركي من فييتنام في 1973). في ليبيا، رفض حلف شماليّ الأطلسي تسليح القوات المحلية التي ما انفكت ترجو تزويدها بالأسلحة اللازمة، وتؤكد أنّ باستطاعتها تحرير البلاد في وقت قصير لو حصلت عليها. ولا يغيّر من ذلك تسليم الأسلحة المحدود الذي قامت به فرنسا على الجبهة الغربية، ولا ما وصل إلى شرق ليبيا من قطر. ذلك على الرغم من أنّ الثوار الليبيين، بخلاف الأفغان، التزموا دفع ثمن أي سلاح يتلقونه، حالما تصبح أموال الدولة الليبية تحت تصرّفهم. ومن المعلوم أنّه ليس من عادات صنّاع وتجار الأسلحة الغربيين تجاهل فرص البيع. ففي السنوات الأخيرة، تزاحموا جميعاً متهافتين على بيع السلاح للقذافي، وتمكنوا من عقد صفقات بلغت قيمتها ما يقارب مليار دولار بين نهاية 2004، عندما رفعت حكوماتهم الحظر المفروض على ليبيا، ونهاية 2009. وتضمّنت الصفقات قنابل عنقودية باعتها شركة إسبانية للقذافي، ولم يتردد في استخدامها ضد شعبه.
وقد يبدو مخالفاً للمنطق أن يكون رفض الناتو لتسليح المتمردين غير مقرون بشنّه حملة حربية مكثفة للغاية، تعويضاً عن ضعف الذين تدّعي دعمهم في قتالهم على الأرض. فالمفارقة الثانية تكمن في ضعف حملة حلف الناتو الجوية في ليبيا مقارنة بحملة كوسوفو، فضلاً عن العمليات الجوية الأخرى التي أطلقتها واشنطن في السنوات الأخيرة. ويستاء من ذلك الثوار الليبيون بشدّة. وكما روى سي.جي. شيفرز في المدونة الإلكترونية «في حالة حرب» التابعة لصحيفة «نيويورك تايمز» (24 تموز)، ازداد سخط الثوار مع الزمن: «أحد الأمور التي يختبرها المراسلون الموجودون إلى جانب مقاتلي المعارضة الليبية هو لمس الفرق بين ما تقوله القاعدة عن حملة الناتو الجوية، من جهة، وتصريحات المسؤولين في المجلس الوطني الانتقالي، سلطة الأمر الواقع في مناطق الثوار، من الجهة الأخرى. رسميّاً، لا يمكن قيادة الثوار أن تشكر حلف شماليّ الأطلسي على تدخله بما فيه الكفاية. وتُكثر الشخصيات السياسية في المجلس الوطني الانتقالي من التصريحات المعسولة تعبيراً عن دعمها وامتنانها الكامل لما أقدم عليه الناتو، الذي تحرص تلك الشخصيات على إرضائه. أما الموجودون على جبهات القتال أو الذين يحدق الخطر بهم، فلديهم وجهة نظر أكثر تنوّعاً. هم أيضاً شاكرون لما أقدم عليه الناتو في الأيام الأولى من الحرب، عندما حال القصف الجوي دون تغلّب كتائب العقيد معمر القذافي على الثوار في الشرق ودون سحقها للانتفاضة في بنغازي. بيد أنّهم يعبّرون أيضاً عن إحباط عميق، قلق أحياناً، بشأن وتيرة الدعم الجوي والمناطق التي يستهدفها، وغالباً ما يشكون ما يعدّونه انعدام كفاءة وتدخلاً نصفياً فقط من الناتو».
هل يصدّق أحد أنّ حلف شماليّ الأطلسي الذي تجاهل مجلس الأمن في الأمم المتحدة حين شنّ حربه الجوية على نظام سلوبودان ميلوسيفيتش في 1999، قد اعتنق فجأة مبدأ احترام القانون في العلاقات الدولية؟ يصعب ذلك. هل الأمر إذاً أنّ الحلف شعر بضرورة احترام نص القرار الدولي 1973، الذي شرّع إطلاق الحملة الجوية على ليبيا؟ يكون من الغباء تصديق ذلك. لقد انتهكت حملة الناتو الجوية كلاً من نص القرار الدولي وروحه، متخطية «كلّ التدابير اللازمة… لحماية المدنيين والمناطق المأهولة بالسكان المعرضة لخطر الهجوم» التي نص عليها القرار. وكان لطرابلس ومناطق أخرى تقع تحت سيطرة النظام، نصيب عالٍ من الغارات، ما زاد من مخاطر وحدّة «الأضرار الجانبية» التي يلحقها الناتو بالمدنيين الذين يزعم حمايتهم.
أما البند الذي يدعو إلى «التنفيذ الصارم لحظر توريد الأسلحة» في نص القرار الدولي، فليس هو بالتأكيد سبب عدم تسليح الناتو للثوار. فلو عزمت دول الحلف على تزويدهم بما يحتاجون إليه من أسلحة، لما شكّل فيتو موسكو أو بكين عائقاً أمام واشنطن وحليفاتها لتنفيذ ما تشاء، كما فعلت في البلقان في 1999، ومجدداً في العراق في 2003. كذلك، إنّ عدم تدخل الناتو برّاً ليس على الإطلاق احتراماً منه لما نص عليه القرار الدولي في ما يتعلق بـ«حظر دخول أي شكل من أشكال قوات الاحتلال الأجنبية إلى أي جزء من الأراضي الليبية»، بل لأنّ الثوار أنفسهم أصرّوا منذ البداية على رفضهم أي تدخل برّي. وتعلن ذلك بوضوح لوحة كبيرة رُفعت في ميدان التحرير في بنغازي، كُتب عليها: «لا للتدخل الأجنبي على أرضنا، نعم لتسليح الثوار».
ارتياب متبادل
والحال أنّ الارتياب متبادلٌ بين الطرفين بدون أدنى شك. فالموقف العملي للقوى الغربية إزاء الثوار الليبيين مختلف تماماً عن موقفها إزاء جيش تحرير كوسوفو، قبل حرب 1999 وأثناءها، أو إزاء التحالف الشمالي قبل قصفها لأفغانستان وأثناءه، بدءاً من تشرين الأول 2001. ونلاحظ في وسائل الإعلام الغربية تشديداً دائماً من وحي رهاب الإسلام على دور «الإسلاميين» في الثورة الليبية، مع تقديمها ذاك الدور ذريعة لعدم تزويد الثوار بالسلاح، بينما غضّت الطرف عن وجود مجموعات مماثلة في صفوف القوات الكوسوفية، فضلاً عن أن التحالف الشمالي الأفغاني (واسمه المحلي «الجبهة الإسلامية المتحدة لإنقاذ أفغانستان») قد ضمّ عدداً كبيراً من المجموعات التي لا يختلف تشدّدها الأصولي عن تشدّد حركة طالبان إلا بقليل. والحال أنّ وسائل الإعلام الغربية منافقة تماماً في إدانتها للأصوليين الإسلاميين عندما يكونون مناهضين للغرب، بينما تلتزم الصمت إزاء المملكة السعودية، أكثر الدول تشنجاً في مجال الدين والراعية العالمية الرئيسية لجميع الحركات السلفية الرجعية.
ولم تبدِ وسائل الإعلام الغربية أيّ قلق بشأن هجانة القوات الأفغانية المجتمعة في إطار التحالف الشمالي، عندما سلّمته حكوماتها زمام السطلة في أفغانستان. جرى الأمر رغم ما جرى في 1992 بعد هزيمة نظام نجيب الله، الذي كان مدعوماً من موسكو حتى انهيار الاتحاد السوفياتي في نهاية العام السابق. فحولت أطراف التحالف الشمالي أفغانستان إلى ساحة تحققت فيها مقولة «حرب الجميع على الجميع»، وغرقت «دولة أفغانستان الإسلامية» في فوضى دموية، ما أتاح لحركة طالبان تحقيق فوز سهل نسبياً في 1996. وبالطبع، لم تنتب واشنطن أيّة هواجس حين قررت إطاحة طالبان بحملة مشتركة من قوات التحالف الشمالي وقواتها الجوية ـــــ وقد نفذت لأجل ذلك نحو 85 طلعة جوية هجومية يومياً، طوال 76 يوماً، منذ بداية العمليات في تشرين الأول وحتى 23 كانون الأول 2001، أي بما يزيد على معدّل الطلعات فوق ليبيا بنسبة 50 بالمئة.
نسب العديد من المراقبين تلك المفارقات في التدخل الغربي في ليبيا إلى غاية تتمحور حول السيطرة على البلاد بعد رحيل القذافي. وكان العديد من المتعاطفين مع الانتفاضة الليبية ـــــ وقد أبدى بعضهم، بمن فيهم كاتب هذه السطور، تفهّمهم لطلب بنغازي المساعدة من «الشيطان» بهدف تفادي مجزرة متوقعة ـــــ قد حذّروا الثوار الليبيين منذ البداية من تصوير الشيطان على أنّه ملاك للمناسبة، ومن نسج الأوهام بشأن الدوافع الحقيقية للدول الغربية. وقد أثبت تطوّر الوضع في ليبيا صحة تلك التحذيرات المبكّرة، لدرجة أنّ اقتناعاً وُلد في بعض الدوائر العربية المناهضة للهيمنة الغربية بأنّ الحلف الاطلسي يطيل أمد الحرب عمداً، ليطيل أمد حكم القذافي. عبّر عن ذلك الاقتناع منير شفيق، المنسق العام للمؤتمر القومي ـــــ الإسلامي (الذي تشارك فيه حركة الإخوان المسلمين، وحماس، وحزب الله)، على موقع «الجزيرة.نت» (4 تموز): «لا يستطيع أحد أن يتفهم ما معنى أن تركز طائرات الأطلسي على ضرب مواقع تكاد تكون وهمية في طرابلس، بينما يترك راجمات الصواريخ والمدفعية والآليات العسكرية تقصف مصراتة وعدداً من البلدات الأخرى. بل ترك أرتال قوات القذافي تنتقل من مكان إلى آخر على أرض مكشوفة، من دون أن يتعرض لها. فأين حماية المدنيين وأين مساعدة الشعب في الخلاص من القذافي؟ موقف أميركا والأطلسي فاضح في التآمر على ثورة الشعب في ليبيا، وإبقاء قوات القذافي ناشطة إلى حين التمكن من الهيمنة على المجلس الانتقالي، وربما عدد من الكوادر الميدانية كذلك. ومن ثم إطاحته، فالتآمر هنا قد تركز على الشعب والثورة وعلى مستقبل ليبيا».
يحاكي ذاك الارتياب الشديد شعوراً عبّر عنه الثوار الليبيون أنفسهم، كما يتضح من تصريح أحد قادتهم المحليين نقله معمّر عطوي في «الأخبار» (2 حزيران): «في نظر المتحدث باسم المجلس المحلي لمدينة سرت، التابع للمجلس الوطني الانتقالي المعارض، أبو بكر الفرجاني، يتقدم حلف شماليّ الأطلسي نفسه ببطء في عمليته العسكرية ضد كتائب القذافي، بهدف إبقائه فترة أطول في السلطة، وبالتالي ارتفاع قيمة الفاتورة المطلوب من المعارضة دفعها للدول العظمى والشركات الكبرى التي تقف خلفها».
-2-
ما يحدث ليس أوهاماً من نسج خيال شرق أوسطي، ميّال إلى تبنّي نظرية المؤامرة، بل يستند الى وقائع على الأرض. فهي تتناسب مع «المؤامرة» المكشوفة الحقيقية التي حاكتها قوى الناتو بشأن مستقبل ليبيا. وقد كشف المخطط أندرو ميتشل، وزير التنمية الدولية البريطاني، في 28 حزيران: ملف من 50 صفحة تحت عنوان «وثيقة تحقيق الاستقرار»، أعدّه «فريق الاستجابة لتحقيق الاستقرار»، بإدارة بريطانيا ومشاركة تركيا. وترسم الوثيقة سيناريو لما بعد القذافي، على افتراض أنّ «ملك ملوك أفريقيا» سيتنحّى، أو يطاح. فعلى الرغم من المحاولات الغربية المتكررة لإقناع المجلس الوطني الانتقالي بعقد تسوية مع القذافي، بحسب ما تسرّب مراراً الى وسائل الإعلام على مدى الأشهر السابقة، أوضح المجلس أنّ إزاحة القذافي وأولاده من الحكم أمر غير قابل للتفاوض في نظر الثورة الليبية. وحتى احتمال منح القذافي تقاعداً مريحاً في ليبيا، وهو احتمال طرحه المجلس باستحياء، وعلى نحو اختباري تحت الضغط الغربي، جرى التراجع عنه سريعاً، بسبب السخط الذي أثاره في صفوف الثوار.
أحد أهم المشاركين في المحاولات الغربية لعقد صفقة مع المقرّبين من القذافي هو ابنه، سيف الإسلام، الرجل الذي اشترى لنفسه شهادة دكتوراه (تتناول أطروحته المجتمع المدني والديموقراطية!) من معهد لندن لعلم الاقتصاد (LSE)، واشترى لأبيه زيارات من قبل أمثال ريتشارد بيرل، وفرانسيس فوكوياما، وبرنارد لويس، وانتوني غيدنز، من أجل «تحسين صورة ليبيا ومعمر القذافي». وقد صرّح لجريدة «الخبر» الجزائرية (11 تموز) بأنّ الحكومة الفرنسية، خلافاً لموقفها الرسمي، قد أقامت مفاوضات مع طرابلس: «نحن الآن نتفاوض مع باريس، فتحنا اتصالات مع فرنسا. الفرنسيون قالوا لنا هذا المجلس يتبعنا، حتى إنّهم قالوا لنا عندما نصل إلى اتفاق معكم في طرابلس سنفرض على المجلس الانتقالي وقف إطلاق النار … أنا أقول إذا أرادت فرنسا أن تبيع طائرات «رافال»، إذا أرادوا أن يوقعوا عقود نفط، إذا أرادوا أن ترجع شركاتهم، فعليهم أن يتكلموا مع الحكومة الشرعية في ليبيا، ومع الشعب الليبي، وبالطرق السلمية والرسمية».
من جهته، لا يُظهر «ملك ملوك أفريقيا» أي استعداد للانصياع. وقد كرر في 23 تموز انتقاده الشديد للشعبين التونسي والمصري على إطاحتهما حاكميهما الدكتاتوريين. ومع ذلك، اعتمد مخطط الحلف الأطلسي الذي أعلنته لندن على سيناريو «وقف إطلاق النار بين النظام و الثوار»، بما يعني أنّ أجهزة النظام ومؤسساته سوف تبقى قائمة.
الهاجس الرئيسي لخارطة طريق الناتو، التي أشرفت بريطانيا على رسمها، هو تجنب تكرار الأداء الكارثي للولايات المتحدة في العراق، بعد غزوه. هناك، واجهت إدارة بوش خياراً بين احتواء الجسم الأعظم للدولة البعثية، وتفكيكها بالكامل. وتبنّت الخيار الأخير المدعوم من أحمد الجلبي والمحافظين الجدد، دعاة مخطط أبله، هدف الى خلق نظام عميل للولايات المتحدة في العراق، يقوم على جهاز دولة محدود للغاية. لذا، فإنّ خارطة الطريق الليبية الأطلسية مستوحاة من السيناريو الذي أيّدته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في العراق، ورفضته ادارة بوش في حينه.
وكما أوضح ميتشل، تعتمد خارطة الطريق على «التوصية بألا تحذو ليبيا حذو العراق في حلّ الجيش، الخطوة التي عدّها بعض المسؤولون خطأً استراتيجياً أدى الى إذكاء التمرّد في الظروف الحسّاسة والمضطربة التي تلت إطاحة صدام حسين». وقد شدّد وزير الخارجية البريطاني وليم هايغ على الهاجس نفسه، عند زيارته المجلس الوطني الانتقالي في بنغازي. فصرّح في اليوم التالي (5 حزيران): «لا اجتثاث للبعث، فبالتأكيد سيستخلص الثوار العبرة من ذلك»، مضيفاً إنّ «عليهم نشر الخبر على نحو فعال أكثر، ليتمكنوا من إقناع أعضاء في النظام الحالي بأنّه حلّ مجدٍ». ويحدد الهاجس نفسه موقف الدول الغربية من الانتفاضة السورية، إلا أنّ نفوذها في ليبيا أقوى بكثير.
إنّ توصيف ميتشل «للمساهمة القوية» للناتو وحلفائه في إدارة ليبيا بعد القذافي ـــــ بدون انتشار برّي ـــــ إنما هو مضحك حقاً: «سيقود الاتحاد الأوروبي والناتو والأمم المتحدة في مجال المهمّات المتعلقة بالأمن والعدل؛ وستقدم أوستراليا وتركيا والأمم المتحدة العون في الخدمات الأساسية؛ وتقود تركيا والولايات المتحدة والمؤسسات المالية الدولية في حقل الاقتصاد»، لكن، أضاف ميتشل: «من المهم جداً أن تكون العملية برمتها ملكاً لليبيا. قمنا بذلك خدمة للشعب الليبي».
بيد أنّ تلك الخطة الأولية لم تغنِ عن وضع خطة ثانية، بما يشير إلى قلة ثقة الدول الغربية باحتمال «انتقال منظّم» للسلطة بعد القذافي (نستعير هنا العبارة التي رددتها إدارة أوباما مراراً وتكراراً، كتعويذة في صدد مصر). وقد كشفت صحيفة «وول ستريت جورنال» (29 حزيران) في تقريرها عن الخطة التي تديرها بريطانيا، أنّ مسؤولين في الأمم المتحدة يعدّون «خطط طوارئ» تتضمن «نشر قوات مسلحة متعددة الجنسيات… قد تكون من بلدان إقليمية، كتركيا والأردن وربما بعض دول الاتحاد الأفريقي». وليس مفاجئاً أن يكون أحد المتحمسين لتلك الخطة أحد أكثر الزعماء الغربيين عداوة للثوار الليبيين، الجنرال كارتر هام، المشرف الحالي على قيادة أفريقيا الأميركية (أفريكوم). وتشاطره الرأي قيادة الجيش الجزائري، التي زارها الجنرال اوائل حزيران، محذّراً من هناك من خطر وقوع الأسلحة المنتشرة في ليبيا بأيدي تنظيم القاعدة. (ولعلّ تحرّر الأمازيغ في غرب ليبيا سبب إضافي لموقف الجزائر العدائي تجاه ثوار ليبيا).
لم يحتج المجلس الوطني الانتقالي إلى وقت طويل، كي ينصاع لتعليمات الحلف الأطلسي، ويصوغ نسخته الخاصة من خارطة الطريق، التي من الواضح تماماً أنّها صُممت لترضي الهوس الغربي بـ«النموذج العراقي». وقد سرّبت نسخة من الخطة الليبية المؤلفة من 70 صفحة إلى صحيفة «تايمز» اللندنية، التي نشرت ملخصاً عنها في 8 آب. وتتضمن الخطة أرقاماً تفصيلية الى حد أنّها لا تصدّق، بما يوحي بأنّ مؤلفيها يسعون الى إرضاء أسيادهم في الحلف الأطلسي: «تزعم الخطة أنّ 800 مسؤول أمني في حكم القذافي يعملون سراً لمصلحة قضية الثوار، وهم مستعدون لتكوين العمود الفقري للجهاز الأمني الجديد… تدّعي الوثائق أنّ المجموعات الثائرة في طرابلس والمناطق المجاورة تتضمن 8660 مناصراً، 3255 منهم في جيش القذافي. ومن المرجّح جداً أن ينشقّ عدد كبير من المسؤولين النافذين، علماً أنّ 70% منهم يؤيدون النظام خوفاً منه، لا أكثر».
خلافات في صفوف المعارضة
وقد أبدت صحيفة «تايمز» شكّاً في شأن سيناريو المجلس الوطني الانتقالي في ضمّ أركان نظام القذافي الى النظام الذي سوف يليه: «ذلك أمر ليس محفوفاً بالخطر فحسب، بل هو مثير للجدل أيضاً، في ظل وجود ثوار مقاتلين عازمين على التخلص من كل ما بقي من النظام»، وكما أشارت صحيفة «وول ستريت جورنال» في تقريرها بشأن خارطة الطريق التي أشرفت عليها بريطانيا: «تحوّل الكثير من كتائب الثوار الى ميليشات، ويرفض بعضها تلقّي الأوامر من أشخاص كانوا يتولّون مناصب عسكرية او أمنية في نظام العقيد القذافي، قبل أن يلتحقوا بصفوف الثورة عند اندلاعها في شباط، بل يرفض البعض حتى العمل الى جانب هؤلاء. وقد دعا بعض زعماء الثورة البارزين الى تجريد الذين ناصروا النظام حتى النهاية من أي منصب في المستقبل، وإعطاء الأولوية لأولئك الذين حاربوا العقيد القذافي». إنّ عزم العديد من الثوار على إزاحة جميع الذين ناصروا القذافي ووقفوا ضد الثورة هو في الواقع ما يتيح فهم المفارقات في سلوك الناتو. فلم تكن أوساط الحلف الأطلسي ترغب في أن يحرر الثوار طرابلس بوسائلهم الخاصة، كما ذكرت مجلة «ذي ايكونومست» البريطانية بصراحة تامة (16 تموز): «تأمل الحكومات الغربية ألا تسقط طرابلس على أيدي الثوار بعد تقدمهم المتواصل من شرق البلاد، مع الاحتمالات الملازمة بقيام عمليات ثأر تستهدف مناصري القذافي خلال تقدمهم. بدلاً من ذلك، فإنّها تفضّل انفجار النظام من الداخل وانتفاض سكان طرابلس لإطاحة العقيد ـــــ وهو ما تظن الدوائر الحكومية الغربية أنّ موعده يقترب».
هذا وقد أفصحت صحيفة « فايننشال تايمز» عن تفضيل مماثل قبل ثلاثة أيام من بدء تحرير طرابلس (17 آب):«يجب أن يحرص قادة الثوار على عدم تعريض استقرار دولة ما بعد القذافي للخطر، من خلال شنّ هجوم شامل على طرابلس. فحتى لو نجح مثل ذاك الهجوم، سينجم عنه بشبه التأكيد حمّام من الدماء في صفوف الثوار وأنصار النظام والمدنيين… فبدل الهجوم على طرابلس، ينبغي للثوار عزل النظام بجمع متقن بين أنواع الضغط العسكري والاقتصادي والدبلوماسي. ذاك هو الطريق الأفضل ليس لإزاحة العقيد القذافي من السلطة فحسب، بل أيضاً لجعل الانتقال الى ليبيا جديدة أهدأ ما يمكن».
وقد علّق توم دايل على مسألة تفضيل الناتو «انفجار النظام من الداخل»، كما جاء في «ذي إيكونومست»، كاتباً على موقع صحيفة «ذي غارديان» اللندنية (4 تموز): «لماذا تفضل القوى الغربية انقلاباً على القذافي من الداخل على انتصار جيش الثوار؟ إنّ انقلاباً كهذا يفترض حصول تسوية ما بين أركان النظام القديم الذين لا يزالون يحيطون بالقذافي، وقيادة الثوار التي تتضمن بدورها العديد من رجال النظام السابقين. ترغب الحكومات الغربية في تحقيق الاستقرار وممارسة النفوذ، وترى أنّ رجال النظام القديم بدون القذافي وعائلته، يمثّلون الحل الأفضل لضمان ما تشاء». ما جاء في الجملة السابقة يحتاج الى التدقيق، ولا سيما لتأكيد التمييز بين رجال النظام الذين انشقوا عنه منذ بداية الثورة، والذين لا يزالون مع القذافي. فلنأخذ اللواء عبد الفتاح يونس ـــــ الذي اغتيل أخيراً ـــــ على سبيل المثال، وهو أحد أهم رجال نظام القذافي السابقين الذين انضموا الى الثورة في أيامها الأولى. كان القائد العسكري للثوار الليبيين من أشد المنتقدين لأداء الحلف الأطلسي، وتطوّرت علاقة عدائية للغاية بينه وبين العقيد خليفة حفتر، المقرب من وكالة الاستخبارات المركزية. عاش الأخير في المنفى مدة تقارب ربع قرن، قضى معظمها في الولايات التحدة عاملاً مع الوكالة. وقد عيّنه المجلس الوطني الانتقالي في منصب عسكري رفيع المستوى لمّا عاد الى ليبيا، وذلك بضغط من واشنطن. إنّ حفتر رجل يكرهه كثيرون في المعارضة الليبية، كما نقل من بنغازي الصحافي شاشنك بنغالي على شبكة «ريل نيوز نتوورك» اليسارية (14 نيسان):«ثمة بعض التوجس هنا حيال إمضاء حفتر وقتاً طويلاً في الولايات المتحدة، وحيال علاقاته المزعومة بوكالة الاستخبارات المركزية ومسؤولين أميركيين آخرين، ما يجعل منه شخصاً مثيراً للجدل لدى الليبيين، الذين يشعرون بأنّ انتفاضتهم انتفاضة محلية بحق. إنّهم يريدون الدعم الأجنبي على نحو الأسلحة والاعتراف بالحكومة الليبية المعارضة فقط. وعليه يرغبون أيضاً في ألا تستولي على الثورة قوى خارجية كوكالة الاستخبارات المركزية».
وقد دفع العداء بين يونس وحفتر الى اعتقاد البعض أنّ اغتيال الأول جرى على أيدي الوكالة لتمهيد الطريق للأخير، لكن حفتر لم يحلّ محل يونس، بل حلّ محلّه رجل آخر انشق مبكّراً عن نظام القذافي، هو اللواء سليمان محمود العبيدي، الذي شغل منصب قائد المنطقة الشرقية في طبرق قبل انشقاقه. على العموم، لا تبدو الظروف مؤاتية للرجال ذوي الارتباطات الأمتن بالخارج، ويشير الى ذلك تعليق «نيويورك تايمز» (8 آب) بشأن حلّ المجلس الانتقالي لمجلس الوزراء المؤقت، عقب اغتيال يونس:«بدت مسألة التغيير الوزاري على أنّها تمثّل مجهوداً من المجموعات النافذة في حركة الثورة، بمن فيهم الزعماء المحليون، الذين ساهموا في تنظيم الانتفاضة، يرمي الى فرض سلطتهم وتهميش الزعماء الذين عادوا من المنفى وتسلّموا مناصب أساسية. لأشهر عديدة، وردت شكاوى كثيرة بشأن عدم معرفة معظم اللبيبيين بالوزراء الذين يقضون معظم وقتهم خارج البلاد ـــــ في قطر على الأخص، وهي الدولة التي برزت بوصفها الراعي الأكثر حماسة للثوار. وقال متحدث باسم الثوار إنّ السيد محمود جبريل [وهو الاقتصادي الذي عيّنه المجلس الانتقالي رئيساً للوزراء، بعدما أشرف على إصلاحات نظام القذافي النيوليبرالية منذ 2007 حتى الانتفاضة]، الذي نادراً ما يشاهد في بنغازي، سوف يُطلب منه أن يمضي وقتاً أكثر في ليبيا».
هذا وأعطى محمد عجوري، أحد معاوني عبد الفتاح يونس، رواية معقولة لحادثة اغتيال اللواء، متهماً أعضاءً في «كتيبة شهداء 17 فبراير» بالاغتيال. ( وفقاً لمصدر آخر، ينتمي الجناة الى مجموعة إسلامية متشددة تطلق على نفسها اسم كتيبة أبو عبيدة بن الجراح). وتعطي شهادة عجوري لمحة عن تركيبة الثوار الهجينة والمعقدة: ««كتيبة شهداء 17 فبراير» هي مجموعة تتألف من مئات المدنيين الذين حملوا السلاح للانضمام الى الثورة. يقف مقاتلوهم في المعارك على خط المواجهة مع قوات القذافي، لكنّهم يعملون أيضاً كقوة أمن داخلي شبه رسمية للمعارضة. كان بعض قادتها أعضاءً في الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية، وهي ميليشيا إسلامية شنّت حملة عنف ضد نظام القذافي في التسعينات ….، لا يثقون بأي شخص كان مع نظام القذافي، وأرادوا الانتقام»، أضاف عجوري».
وكان «مؤتمر الحوار الوطني» الذي عُقد في بنغازي يوم 28 تموز، مثالاً آخر عن عدم تجانس صفوف المعارضة. فقد حضره 350 مشاركاً، منهم أعضاء في «كتيبة شهداء 17 فبراير»، وأعضاء سابقون في فرع حركة الإخوان المسلمين في ليبيا (وقد نفت الحركة أن تكون لها علاقة بالمؤتمر حسب رواية «الجزيرة. نت» في 28 تموز). شدد المشاركون في المؤتمر على وحدة ليبيا، وطابعها الإسلامي، وعلى أهمية إطلاق حوار وطني شامل، فيما صرّح عضو المجلس الانتقالي المشارك، الأمين بلحج، بأنّ القذافي وأبناءه لا يمكنهم أن يبقوا في السلطة، بل يمكنهم البقاء في ليبيا تحت الحماية. ويبدو أنّ بعض المشاركين كانوا على صلة بسيف الإسلام القذافي، بما يتجانس مع تصريحات الأخير لصحيفة «نيويورك تايمز» (3 آب): «لقد أطلقت إسلاميين ليبيين من السجن، وأنا على معرفة شخصية بهم، إنّهم أصدقائي».
وجرت تظاهرة خارج الفندق الذي عُقد فيه المؤتمر تندد به. ويُظهر تقرير «الجزيرة. نت» صورة لشاب يرفع لافتة باسم «شباب الثورة» كُتب عليها: «المؤتمر الوطني لا يمثل إلا نفسه». وقد أعرب المتظاهرون عن رفضهم لأي حوار مع سيف الإسلام وشركائه، واتهموا منظمي المؤتمر باستخدام الميليشيات للسيطرة على ليبيا قبل تحريرها بالكامل. أما نعيمة جبريل، وهي قانونية وعضوة في «هيئة دعم مشاركة المرأة في صنع القرار» في بنغازي، فعبّرت لموقع الجزيرة عن احتجاجها على إقصاء النساء عن المؤتمر.
في تلك الأجواء المضطربة، ظهرت تفاصيل إضافية عن خطة المجلس الانتقالي، نقلتها صحيفة «وول ستريت جورنال» (12 آب)، وهي تظهر إقراراً مطَمئناً إلى تعقيدات الوضع الليبي وسعياً إلى معالجتها بطريقة ديموقراطية: «تعترف الخطة بأنّ القيادة في بنغازي لا تتمتع بعد بدعم رسمي من المناطق التي لا تزال تحت سيطرة القذافي، ويطلق سيرورة لملء المناصب الـ25 الشاغرة التي تمثل المناطق المذكورة في الهيئة المؤلفة من 65 مقعداً. بموجب الخطة، يُحظر على أعضاء المجلس الحاليين الترشّح للانتخابات الوطنية في أول دورتين لها، كما يحظر عليهم القبول بتعيينات سياسية في الحكومات الناجمة عنها… وفقاً للوثيقة، سيحكم مجلس وطني انتقالي موسّع ـــــ يضم ممثلين جدد عن المناطق الواقعة تحت سيطرة القذافي ـــــ لمدة ثمانية أشهر بعد سقوط العقيد القذافي، تُجرى خلالها انتخابات لإنشاء لجنة دستورية واختيار 200 عضواً لتأليف مجلس وطني مؤقت. وسيعتمد تمثيل المحافظات في مجلس النواب على إحصاء للسكان أجري في 2010. يحكم مجلس النواب فترة مؤقتة تمتد إلى أقل من سنة، يجري خلالها تبني دستور جديد عن طريق استفتاء وطني، ثم تُنتخَب حكومة ليبية جديدة وثابتة بموجب الأطر المنصوصة في الدستور الجديد».
ليت الواقع يتطابق مع الخطة، لكن احتمال تنفيذها على نحو سلس ضعيف جداً في الحقيقة، نظراً إلى تشابك القوى القبلية والإثنية والسياسية الفريد من نوعه، التي يتكوّن منها المجتمع الليبي، وهو خارج لتوه من أحد أكثر الأنظمة الدكتاتورية جنوناً، الذي دام أكثر من أربعة عقود. فقد أدى الإعلان الدستوري الذي صدر في بداية آب عن المجلس الانتقالي، والمستند الى الخطة المذكورة اعلاه، الى نشوب خلافات في بنغازي، إذ يتّهم بعض الثوار المجلس الانتقالي بالعمل خلف أبواب مغلقة. ويذكّرنا الاضطراب السياسي في ليبيا بالوضع السائد في مصر، حيث تحتدم المعركة السياسة بين شتى أطياف المعارضة، بعضها، ولا سيما بين القوى الإسلامية، على استعداد للتساوم مع مؤسسات النظام، وخصوصاً الجيش، بينما آخرون، ولا سيما في أوساط الشباب، يرفضون ذاك التساوم ويريدون إحداث تغيير جذري في مؤسسات بلدهم.
إنّ الوضع في ليبيا ـــــ كما في تونس ومصر وسائر دول المنطقة التي تتطوّر فيها السيرورة الثورية الحالية ـــــ لا يزال في بداية مسار تطور طويل ومضطرب، هو المصير الطبيعي للتحوّلات الثورية. وسيكون من بالغ الصعوبة على القوى الغربية أن تسيطر على السيرورة في ليبيا، حيث لا قوات على الأرض لديها ـــــ فضلاً عن فشلها أصلاً في السيطرة على أوضاع البلدان التي نشرت فيها قواتها، كالعراق وأفغانستان.
إنّ عملية تحرّر الشعوب وتقرير مصيرها بأنفسها عملية معقدة، ويمكنها أن تمر بمراحل شنيعة، لكن، بدون هذه العملية ولو لم يكن ثمة استعداد لدفع الثمن الملازم الذي قد يكون باهظاً بلا شك، لكان العالم بأسره لا يزال خاضعاً لأنظمة استبدادية.
* أستاذ في«معهد الدراسات الشرقية والأفريقية» في لندن (ترجمة: كوثر فحص)
الأخبار