انتفاضات العالم العربي
فارس إيغو
الربيع العربي يعلن بداية عصر الدولة ونهاية عصر السلطة التي سحقت الدولة ومؤسساتها، وليس نهاية عصر الدولة، كما يقرأ الكاتب زاكروس عثمان الثورات العربية في الأوان. يخلط المؤلف بين مسألة الدولة والسلطة؛ وأصلاً، الدولة هي الغائب الأكبر بعد المواطن العربي في الحكومات الديكتاتورية العربية، لذلك، نحن بحاجة ماسة إلى إعادة بناء الدولة على أسس الحداثة السياسية، أي على مبادئ العمومية وسيادة الشعب وسيادة القانون، كما يقول الجباعي في كتابه “وردة على صليب الحاضر”. من هنا رأينا، أن إحدى المجموعات السياسية السورية، التي انبثقت في الفضاء الثوري الذي دشنه الشباب السوري بتضحياته، سمت نفسها بـ “تيار بناء الدولة”.
إن انهمام الكاتب المشروع بالمشكلة البيئية المتفاقمة، والتي يشخصها في سيطرة النزعة التقنية في العالم، والتي تقودها النخب السياسية والتكنوقراطية المهمومة بالتقدم والإنتاجية، لا ينفي أولوية التخلص من الاستبداد وتحديث الحياة السياسية في البلاد العربية. لقد شخّص هيدغر هذه المشكلة باقتدار في الثلث الأوّل من القرن العشرين، عندما أشار إلى أنّ عصرنا هو عصر سيطرة التقنية ونسيان الوجود. ومن الطبيعيّ أن يعود هيدغر إلى الفلاسفة الإغريق قبل السقراطيين الذين تفاعلوا مع الطبيعة باعتبارها سكناً للإنسان، وليس الطبيعة-الموضوع بحسب الفهم الأنواري الاختزالي للطبيعة. لقد حاول الإنسان منذ الثورة العلمية الحديثة استثمار الطبيعة واستغلالها بطريقة غير تعقلية، وغير رشيدة، دون الانصراف إلى الخطر الجسيم لهذه السياسات المُدمرة للطبيعة ولعالم الإنسان الإيكولوجي.
إن ما يدعوه الكاتب بـ “الكونفدرالية الديموقراطية الايكولوجية القائمة على الأخلاق”، تبدأ عندنا بأنسنة السياسة، وإعمال العقلانية في ما يخص حياتنا وعلاقاتنا الاجتماعية. إن ما هو موجود عندنا، سلطات وليس دول. لقد مرَّ مفهوم الدولة الحديثة بمحطات كثيرة. جون بودان (1530-1596 ) كانت له مساهمات عدة. وضع أسس الجمهورية res-publique، والتي تعني الشيء العامّ، وميَّز بين السلطة والدولة على نحو واضح، وأسس مفهوم السيادة، وذلك في كتابه الشهير “الجمهورية”. ماكيافيللي خلّص مفهوم الدولة من التبعات الدينية والأخلاقية، فأصبحت الدولة لا تقوم على خدمة الدين، بل تتبع مصلحة الحاكم ودوام سلطته. وماكيافيللي هو صاحب القول الشهير”الغاية تبرر الوسيلة”، حيث صارت الماكيافيلية سمة الحاكم الذي لا يأبه بالوسائل في تحقيق دوام سلطته. صحيح أن ماكيافيللي حرر الدولة من تبعات الدين، لكنه جردها من الالتزامات الأخلاقية، التي تعدّ أحد أعمدة الحكم الرشيد. توماس هوبز (1588-1679)، الفيلسوف الانكليزي المعروف، اشتهر بنزعته المادية المتطرفة. اعتبر هوبز أنّ غاية الدولة تحقيق الأمن والنظام في المجتمع. بموجب عقد هوبز، تتشكّل سلطة قوية تمنع الناس من أن يقتتلوا فيما بينهم، أي تحلّ الأمن بين الأفراد؛ لكن، يحصل تنازل من الأفراد عن حقوقهم السياسية كاملة للعاهل، الذي يغدو سيداً مطلقاً؛ هذا العقد يبقى سارياً، إلا إذا أخلّ العاهل بالأمن. فتحقيق الأمن، هو الحقّ الوحيد للشعب على ملكه، وعلى العاهل أن يسوس البلاد بموجب قوانين الطبيعة، التي هي قوانين العقل. لكن، لكي يقوم العاهل بتطبيق هذه القوانين ويمنع الناس من خرقها، يجب أن تكون هناك قوة زاجرة تضمن سيرها، وهذا الأمر لا يتحقق إلا أن تكون كامل الصلاحيات في يد العاهل، أي وحدة كلية للكل في شخص واحد، وتنازل كامل عن الحقوق السياسية من جانب المحكومين. يعتبر هوبز منظر السلطة المطلقة والتنازل التام من جهة الشعوب.
يعتبر جون لوك (1632-1704) المنظر السياسي الذي أعاد التوازن إلى العلاقة بين الحاكم والمحكومين. لقد انطلق هوبز من الفرضية القائلة بأن “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان” وبرر من ثم السلطة المطلقة والقسرية؛ أما لوك فقد آمن بالطبيعة الخيرة للإنسان، ومصدرها العقل، وهذا الأمر قاده إلى فكرة العقد الاجتماعي باعتباره النتيجة الممكنة للتفاهم والاتفاق بين عقول صالحة؛ والواقع أنه في كل الأزمان والمجتمعات ترتبط فكرة الاستبداد وتشرع لنفسها بفكرة سلبية الكائن الإنساني، وعدم صلاحية عقله وضرورة إقامة الوصاية عليه، والعكس صحيح. العقد بالنسبة للوك اختيار والاختيار يتطلب إرادة وحرية بنفس الوقت. إن للوك الفضل في التمييز بصورة قاطعة السلطة التشريعية التي تعبر فعلياً عن كلية الدولة وعموميتها ومشاركة جميع المواطنين في الحياة السياسية، من السلطة التنفيذية الخاضعة للسلطة التشريعية التي تمثل الشعب مؤكداً طابع الدولة الأرضي تماماً والبشري تماماً، وحق المواطنين في الثورة على الحاكم الفاسد.
ورغم تناقض أطروحتي لوك وهوبز فإنهما تتقاطعان في دنيوية السياسة وأصلها المجتمعي، وفي عدم إمكانية قيام دولة بدون تعاقد الأفراد وتوافقهم على تفويض من يمثلهم ممارسة سلطة سيدة، تستمد سيادتها من التفويض والتمثيل، ومن قانون عام يسري على الجميع؛ لكن لوك يشدد على دحض شرعية الحكومة المطلقة.
لقد كان جون لوك أول من دعا إلى فصل السلطات وجعلها إثنتين: تشريعية وتنفيذية؛ مونتسكيو من بعده سوف يجعلها ثلاثاً تشريعية وتنفيذية وقضائية، واشترط أن تكون في أيد مختلفة، لا في يد واحدة. ولا ننسى مساهمة سبينوزا، حيث اهتم في سياق نظريته السياسية بمفهوم المواطنة ذي الحقوق المدنية الكاملة. ويربط سبينوزا بين هذا المفهوم ومفهوم الملكية الخاصة والديمقراطية. ويُعد كتابه “رسالة في اللاهوت والسياسة” والذي لم يوقع عليه باسمه خوفاً من السلطات الدينية والسياسية، الإنجيل الخاص لكل الدساتير الحديثة التي تضمنت حقوق المواطنة الكاملة والحريات المدنية.
يخلط كثير من المفكرين العرب بين مأزق الدولة الاستبدادية ومأزق الدولة الوطنية التي حكمت في الفترة ما بعد الاستعمار، وهنا يتعلق الأمر بصعوبة دخول العرب والمسلمين عصر الحداثة. تجلت أزمة الدولة على أشدها في الدول البوليسية، دول الحزب الواحد، التي قامت في أعقاب الانقلابات العسكرية، واستندت خصوصاً، إلى الأيديولوجية القومية الوحدوية (مصر، العراق، سورية، اليمن، ليبيا، السودان، الجزائر، الصومال). كان من الممكن تخطي مأزق الدولة الوطنية بالطرق الديمقراطية، التي كانت هي المنهج السياسي للدولة ما بعد الاستقلال؛ أما فيما يخص الدولة الاستبدادية، فقد كان الأمر صعباً، إن لم يكن مستحيلاً. لقد أغلقت هذه الأخيرة كل سبل النقاش والحوار، واتبعت أساليب بوليسية في قمع خصومها والتنكيل بهمم واعتبرت الرأي الآخر المعارض خيانة للوطن وخروج على الإجماع الوطني، وبذلك، صحّرت الفضاء السياسي، وحولته إلى ساحة محتكرة من الحزب الواحد، حزب السلطة، والمنظمات الشعبية التابعة لأجهزتها الأمنية. باختصار، لقد اتبعت الدولة الشمولية نهج الوصاية الكاملة على الفرد والمجتمع، وبذلك حوّلت الأفراد من مواطنين إلى رعايا.
قوة الدولة في العالم العربي في أجهزتها الأمنية، وهذا مصدر ضعفها، واختلال شرعيتها؛ فهي لا تستطيع أن تواجه مجتمعاتها إلا بالأجهزة الأمنية والمخابرات؛ وهي تستعمل القمع الشديد للتضييق على حرية الرأي، وتقوم بتزوير الانتخابات. إنها دولة غير شرعية، وهي انقلاب مستمر على المجتمع. يقول صاحب مقالة “إشكالية الدولة”، أن الدولة العربية الحديثة، فشلت في كل المجالات الاجتماعية “فلا هي حققت التنمية الاقتصادية، ولا هي ضمنت الحريات السياسية، ولا هي صانت الاستقلال الوطني، ولا هي احترمت أو استطاعت التعامل مع التعددية الاجتماعية والثقافية” (علي الدين هلال”إشكالية الدولة والديمقراطية في العالم الثالث”، في الكتاب الجماعي <<أزمة الديمقراطية في الوطن العربي>>، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت: 1984 ،ص:49 ).
من الخطأ مقاومة الدولة باسم المجتمع المدني، والربط الحتمي بين مفهوم المجتمع المدني والليبرالية الاقتصادية. المجتمع المدني القوي يتفاعل في وجوده وفاعليته مع دولة قوية تتسم بالحرية لا بالاستبداد وبالفاعلية لا بالشمولية. المجتمع المدني نقيض المجتمع الديني الثيوقراطي. إن وجود مجتمع مدني قوي يتحقق مع وجود الدولة القوية، دون أن يعني ذلك حالة من حالات السلطوية أو الاستبداد، لأن الاستبداد إنما يعبر عن ضعف الدولة لا قوتها. والدولة تكون ضعيفة في الاستبداد، لأنها تكون مجتاحة من قبل السلطة التي تحتل الدولة والمجتمع وتحطمهما. في الاستبداد تكون السلطة-الدولة في مواجهة المجتمع لأنها تأتي من خارجه، أما في الديمقراطية حيث الشرعية تكتسب من الشعب فإن الدولة هي في المجتمع.
إن عصر الجمهورية قد ابتدأ الآن، نتيجة الانتفاضات العربية التي عمت العالم العربي مع بداية عام 2011 . لقد أعلن الرئيس التونسي المنصف المرزوقي قيام أول جمهورية في العالم العربي؛ أما الجمهوريات السابقة، فقد كانت جمهوريات فلكلورية؛ أقامت الدساتير وخرقتها عن طريق قوانين الطوارئ، وأجرت الانتخابات وزوّرتها، وأوصلت إلى المجالس النيابية الشخصيات الانتهازية التي أفسدت الحياة الاقتصادية، وتحولت المجالس إلى جلسات للتهريج وللدعاء بحياة القائد الذي اختصر الوطن كله بشخصه.
تبقى الدول هي الأمكنة الوحيدة في الوقت الحاضر لإقامة نظام ديمقراطي وإرساء احترام شامل وذي طابع رسمي لحقوق الإنسان، ولترسيخ العلمانية. إن الدولة القوية، أي دولة الحقوق والمواطنة الكاملة، والمجتمع المدني الفاعل والمتيقظ، هي السبل الناجعة ضد عودة الاستبداد بأقنعة جديدة، وفي وجه الطوائف (الجماعات الدينية والأهلية) التي تريد غزو المجال العام وتطييف الدولة.
إن فكرة تجاوز الدولة تأتي من حيث كونها سلطة القهر والإقصاء، ومن حيث هي أداة لبث أيديولوجيا الهيمنة الشاملة على المجتمع بدل أن تكون أداة للتحرر والانعتاق وضمانة لديمومة المؤسسات وتجانسها في ضمير المجتمع. من هنا، فإن الحل ليس بإضعاف الدولة لصالح الكيانات ما قبل-الدولتية، بل بدمقرطة الدولة ولبرلة المجتمع.
موقع الآوان