انسحابنا من «الائتلاف» هو من وحي الثورة وانحياز لها/ مصطفى الصباغ *
تمر الثورة السورية بمرحلة حساسة جداً، تتداخل فيها تعقيدات الوضع الداخلي بحسابات القوى الإقليمية والدولية. فنحن كسوريين عشنا طغيان عقودٍ، مورست فيها علينا أشكال كثيرة من الكبتِ السياسي والفكري، بالإضافة إلى الكبت الاقتصادي والاجتماعي، وما ترافق مع كل ذلك من أدوات قمع ووسائل إقصاء وتنكيل، أنتج كل ذلك ثقافةً، لم تستطع استيعاب الأدوار والوظائف الكبرى المطلوبة لخدمة الثورة وإدارتها. لكن تجربة ثلاث سنوات من العمل السياسي في ظل ظروف صعبة للغاية، والخبرة المتراكمة عنه، فرضت علينا جميعاً الارتقاء إلى مستوى من المواقف والعمل السياسي يليق بالثورة السورية العظيمة، وبتضحيات السوريين.
كثيراً ما يساء فهم الأسباب الدافعة لانسحاب ٤٤ عضواً من «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة» السورية واستعداد آخرين للانضمام إليهم ممن كانوا ضمن الأطراف والكتل الرئيسة التي شاركت في تأسيسه.
من جانبنا، كفريقٍ كبير من أعضاء «الائتلاف الوطني»، قمنا بجملةٍ من المراجعات العميقة والشاملة لوضع الثورة وكل ما يحيط بها من ملابسات، سواء لجهة الأطراف المؤثرة فيها داخلياً وخارجياً، أو لجهة مصادر القوة والضعف الحقيقية فيها، أو لطبيعة الأدوار والوظائف التي يجب الاضطلاع بها للمساهمة في خدمة الثورة بفاعلية.
لقد وصلنا إلى رؤية متكاملة، في ما يتعلق بوضع «الائتلاف» بتركيبته الحالية، لجهة قدرته على الفعل من عدمه، بعبارة أخرى، ما يستطيع وما لا يستطيع القيام به، إضافةً إلى إعادة النظر بخصوص الاستحقاقات القادمة وسيناريوات التعامل معها، وفي مقدمها مؤتمر جنيف 2، ومنها وما يتعلق بتصاعد وبلورة القوى الثورية داخل سورية، سواء على صعيد تطورها العسكري والسياسي، أو على صعيد الفرز الواضح بين صفوفها في قضية الولاء للثورة وأهدافها.
قادتنا الرؤية المذكورة إلى إدراك مجموعة حقائق، منها أن «الائتلاف» بتركيبته الحالية لم يعد قادراً على القيام بدوره المطلوب، فآلية صناعة القرار عشوائية ومحصورة في أفراد معدودين، لا سيما في القضايا الجوهرية السياسية منها والعسكرية. إذ لم تكن هناك أي مشاورات حول الاجتماع مع هيئة التنسيق، لتشكيل ما يُسمى بموقف موحد للمعارضة. ولا في قرار رئيس «الائتلاف» الاتصال بروسيا، ولا في طريقة إنفاق الأموال المرصودة لدى الائتلاف.
هذا الوضع غير السليم انعكس تصدعاً وشللاً في «الائتلاف» وفي الكتل المكونة له، بما في ذلك التيار الذي يقود «الائتلاف». فعجز عن تحقيق أي تقدم، خصوصاً في المجالات السياسية والعسكرية العالية الأهمية، ناهيك عن الفشل الذريع في المجال الإغاثي في فترة شهد فيها الشعب السوري ما يمكن تسميته بأقسى مرحلة من مراحل الثورة على مختلف المستويات، وكان من المفترض أن يُبتعد به عن التسييس.
وجاء تشكيل الحكومة الموقتة ليكون نموذجاً على افتقاد رؤية رجال الدولة، في تشكيلها ووضع برنامجها على حد سواء، بل بدا وكأن قيادة «الائتلاف» تتقصد إفشالها وعدم مساعدتها (تهميشها) أثناء أداء دورها، مع الإهمال الكبير الذي أحاط بظروف تشكيلها.
وتمثلت الطامة الكبرى في عدم قدرة «الائتلاف» على إيجاد لغة مشتركة مع القوى الثورية في الداخل للتواصل معها بشكل جدي، بما يؤمن لها حق التمثيل والمشاركة، وفي افتقاد الإرادة لحصول مثل ذلك التواصل أصلاً، لهذا كان من الطبيعي ألا يتمكن رئيس الحكومة الموقتة – المفترض لها أن تعمل في الداخل السوري- من مجرد الاقتراب من الحدود السورية، وصارت الحكومة ومعها «الائتلاف» جسماً منفصلاً تماماً عن الداخل السوري.
وعلى رغم اقتراب الموعد الذي حدده المجتمع الدولي لمؤتمر جنيف 2 في 22 كانون الثاني (يناير) الجاري، فقد بقيت قيادة الائتلاف عاجزةً عن التحضير الجدي له، واكتفت بإرسال بعض الأعضاء إلى دورات تقيمها بعض الدول الأوروبية هنا وهناك للتدرب على التفاوض. فلما كان التحضير الهزيل لمعركة ديبلوماسية قد تكون أكثر شراسة بكثير من المعركة العسكرية، أضف إلى ذلك اتخاذ قرار من قبل القيادة بالذهاب إلى جنيف 2 من دون الرجوع إلى الهيئة العامة (الرسالة التي أرسلها أحمد الجربا إلى الأمم المتحدة بتاريخ 19 أيلول/ سبتمبر 2013 وقبل فيها حضور جنيف 2)، بل والقفز فوقها كونها صاحبة القرار وذات الاختصاص الحصري بذلك، أصبح من الخطير جداً أن تتفرد القيادة بقرار مفاجئ بالحضور في ظل افتقاد أي جاهزية لمثل هذه الخطوة الخطيرة.
لقد قمنا – بناءً على هذه الرؤية – بإيجاد قنوات اتصال مع الداخل، في محاولة لفهم متطلباته وإشعاره صدقاً بأنه شريك أصيل (الأساس والمرجع)، في صناعة القرار. وإقناعه بضرورة التكامل بين ما هو سياسي وما هو عسكري، مع حوارات لغرس معرفة أكبر عند سياسيي الخارج لظروف الداخل وخصوصياته، ولدى القوى الثورية في الداخل لظروف العالم الخارجي وتعقيداته.
لقد حاولنا مراراً وضع القيادة الحالية لـ «الائتلاف» في صورة المأزق الذي يسيرون بـ «الائتلاف» نحوه، وإقناعها بضرورة إجراء تغييرات جذرية في الهياكل وطرق المعالجة وصناعة القرار، لتصحيح الأوضاع بحيث تستجيب للمتغيرات والظروف الجديدة، ولكن من دون جدوى.
وكان لدينا أمل بتصحيح الأوضاع عبر الانتخابات الأخيرة، لكن إجراءها في ظروف غير طبيعية أضاع تلك الفرصة، وأعاد إنتاج الوضع السابق بكل تفاصيله.
بالمحصلة، وجدنا أنفسنا، كفريق، مضطرين في النهاية إلى الانسحاب، رفضاً للاستمرار في القبول بتلك الممارسات، ولعدم رضانا بعضوية فخرية لا نستطيع من خلالها القيام بواجبنا الأخلاقي والوطني أفراداً وتكتلات.
إننا نشعر بالأسف لركوب هذا المركب، إلا أننا نعتقد جازمين بأن هذا القرار ربما يكون قد حمى الثورة بأسرها من مضاعفات وسيناريوات أخرى، فالانحياز التام إلى القوى الفاعلة على الأرض، بعيداً عن المناورات السياسية، هو الذي يعطيها الثقة بالعاملين في المسار السياسي، والطمأنينة تجاه حركتهم وقراراتهم. وهو الذي يضمن – في رأينا – مصلحة ثورة لم يبخل أبناؤها بالتضحيات، وأقل ما يستحقونه هو الانحياز لهم، والتأكيد على ضرورة كونهم شريكاً أساسياً في كل ما يحدد مصيرها وفي جميع المسارات.
تلك هي أسباب قرار الانسحاب من الائتلاف، وهو قرار لم يأت انفعالياً ولا كرد فعل، وإنما بني على دوافع نرجو أن يتلمس كل أبناء الشعب السوري مصداقيتها وثمارها العملية الإيجابية.
* الأمين العام السابق لـ «الائتلاف الوطني» السوري
الحياة