انطباعات شخصية عن سورية
حسان عباس
الوحش فينا
المشهد الأول: رجلان يحتلّان كرسيين من المقعد العريض في مؤخّر حافلة متجهة من مدينة ساحلية إلى دمشق. الرجلان في العقد الثالث، أو الرابع من العمر. ثيابهما مدنيّة، عمليّة، لا تنمّ عن سعة حال، ولا عن فقر. يحمل وجهاهما تعابير متناقضة ومتداخلة: شيء من الفخر المبالغ به، بل ربما من الغطرسة، شيء من العنفوان، شيء من الوحشية، وكثير من الخوف المقنّع.
الرجلان يلهوان بهاتفيهما المحمولين، يقلّبان صوراً محفوظة فيهما، ويتبادلانهما ليرى كل منهما ما يظهره الآخر له. يتكلّمان بصوت عالٍ يُسمع حتى ثلاثة صفوف من المقاعد الخلفية.
– انظر! هذا من الاقتحام الأخير لقرية… هل ترى جثث “الخنازير” الخمسة هذه. لقد قتلتها بيدي. وانظر في هذه الصورة كيف أشعل بها النار… وانظر أيضاً ما بقي منها… فحم… كتلة فحم. والله الذي لا إله إلا هو، لولا العميد الذي أمرنا بالتوقّف، لحرقت كل أهل القرية بهذا الشكل.
– خُذْ!، قلِّبْ في هذه الصور… تجد ثلاث عشرة صورة لقحبات اغتصبتهنّ حتى الآن. لقد نذرت أن يصلن إلى الخمسين، ربي لا تموّتني قبل أن أفي بنذري.
المشهد الثاني: في بيت بضاحية من ضواحي العاصمة. عدد من الأشخاص يشربون الشاي جلوساً على الأرض. يشكّل الجميع دائرة تناثر حولها بعض الأطفال. وهناك بعض النساء المنزويات في ركن من الغرفة يصغين بانتباه. البيت، رغم ضيقه، يستضيف أسرتين نازحتين.
ثمة بين الجالسين زائر من أهل البلدة يلقّب بأبي أحمد، كان سجيناً بتهمة تهريب قبل سنتين وخرج بعد أن شمله العفو الرئاسي.
يقول أبو أحمد: لقد قمنا بحفر حُفرٍ في البساتين. كلما أمسكنا بواحد منهم نذبحه ذبح النعاج ونلقيه في هذه الحفرة لتأتي الوحوش أو الكلاب الشاردة وتأكله. كان هذا في البداية، لأننا كنا رحماء معهم. أما اليوم فقسما بالله يا شباب! نشدّ أيديهم خلف ظهرهم ونقيّدهم ونرميهم في الحفرة لتأكلهم الكلاب وهم أحياء. منذ يومين مرّ أخ لنا قرب حفرةٍ عند الفجر وسمع أحدهم يصرخ ألماً وقد نهشته الكلاب ولم تقضِ عليه. اقترب منه، فشرع الآخر يستغيث، وأخذت الرأفة بقلب أخينا. فأهال التراب فوقه حتى امتلأت الحفرة. ثم قرأ الفاتحة على روحه وتابع مسيره.
لا يمضي يوم دون أن تسمع روايات من هذا النوع يتناقلها الناس، بانبهار لدى بعضهم، لكن باشمئزاز وقرف لدى الغالبية. لكنّ التساؤلات ذاتها تنطلق لدى الجميع: أين كنّا وأين صرنا؟ كيف أصبحنا هكذا؟ من أين ظهر هذا الوحش؟
يطرح السوريّون أسئلتهم وكأن أولئك المروي عنهم من طبيعة أخرى غير طبيعة هؤلاء الراوين أو المنصتين للرواية. فالوحش، ليس عند السوريين فحسب بل لدى البشرية جمعاء، ليس منّا.
الوحش كائن له معالمه الخاصة وله عالمه الخاص. قد يشبه الإنسان أحياناً لكنّه غالباً ما يكون ذا سحنة قميئة، ويعيش في عوالم غير تلك التي اعتادها الإنسان. الوحش يحتجب عن الأعين، أو يختفي أغلب الأوقات، إذ ليس بمقدوره احتمال عالم البشر ذوي العقل والإدراك، والذين يعجزون عن فهم طبيعة الوحوش. الوحوش تقتل، وتقطّع، وتغتصب، وتأكل الأطفال، وتحرق، وتدمّر، وتشرب الدماء. إنّها تنتمي إلى عالم خيالي لم يعرف الحضارة ولم يعش فيه إنسان. هذا العالم نراه ربما في السينما أو نسمع عنه في حكايات الجدّات.
الفنّ والأدب والحضارة والثقافة تجعل الوحش نقيضاً للإنسان، والوحشية نقيضاً للإنسانية. إنها تنظّف الإنسان، تطهّره، تجعله كائناً يشبه الملائكة. فإن حاد عن صورته البرّاقة هذه، طردته من فردوسها الخيالي ورمته في خانة الوحوش.
ينصت السوريون اليوم إلى روايات العنف المتناثرة في فضاء بلادهم ويتساءلون: من أين جاءنا هذا الوحش؟ أم تراه كان فينا؟
السيدة مريم
جلست السيدة مريم، أم غسان، في صدر الغرفة تتلقّى العزاء بابنها الشهيد ذي الستة وعشرين ربيعاً. البيت لشقيقها المعارض الذي ترك البلاد تحت تهديد الاعتقال، وقد نزحت إليه منذ اشتدّ القصف على حيّها وانهار العديد من عماراته. كان ابنها الطبيب آخر العنقود ويفصله عن شقيقه عقد وسنتين. والقصة أن العائلة كلها، رغم ابتعاد السنين، أرادت طفلة تكون مهوى حنان أبيها وسَكينة لأخوتها الذكور. لكن احتمالات الحياة لم تأتِ كما اشتهت العائلة. وكان “أيهم”.
يدهشك في ما تراه له من صورٍ، أو في ما تحتفظ عنه في مخيلتك من ذكريات، دوامُ ابتسامته. كأن الحزن لم يدلف يوماً إلى روحه، أو كأن هاتفاً قدرياً كان ينبّئه بكم سيترك من أسى في العالم فطالبه بالتعويض مُقدّماً بدوام الابتسام.
زارني بعيد خروجه من سجنه الأول وآثار التعذيب لا تزال ماثلة على مشيته وفي بطء حركته. وقتها، أحرجتْ ابتسامته غضبي، وأخجلتْ سكينته انفعالي. قال لي رفيقه: ستة وثمانون يوماً وهو كما ترى، كأنه ليس في سجن. فكّرت: هُوَذا أخيراً من يدحض أسطورة (الثعالبي) حين قال: “إن الله لمّا عجن طينة آدم أمطر عليها سحائب الهموم والحزن أربعين سنة ثم أمطر عليها السرور والفرح سنة واحدة فلذلك صار الهمّ أكثر من الفرح والحزن أكثر من السرور” ( )، وغبطته، ليس لصعوبة إنكار الأسطورة وإنما لقدرته على الاحتفاظ بابتسامه، وعلى المكابرة أمام الأحزان. وتشوّقت لأعرف سرّ تلك المكابرة وأكشف مصدرها.
في بيت العزاء جلست السيدة مريم كسنديانة جبلية، تعصف الريح بأوراقها اليانعة وتعجز عن هزّ الأغصان. نساء ورجال، شباب وصبايا يدخلون ويخرجون، تستقبلهم بوجه صافٍ، صامتٍ، صابر يداري روحاً كليمة خشية أن تفيض بحزنها فتُغرق الحاضرين.
أي بلاغة تقدر على نقل حزنِ أمٍ ثكلى بابنها؟ تباً للغة ما أضعفها أمام “دمعة أجمل الأمهات ووردتها”.
شباب وشابات ملؤوا المكان، ذهبوا هناك آملين أن يمنح تواجدُهم أمَ رفيقهم الشهيد القوة على تحمل المصاب، فأكرمتهم بعنفوانها ومنحتهم نفحات من عمق إنسانيتها. قالت شابة اختارت العمل الميداني سبيلاً لثورتها: “كنت بحاجة لأن أراك قبل نزوحي إلى الميدان. من كان يريد جرعة معنويات وصلابة وتماسك، فليمسك بيد أمّنا، والدة أيهم”. وقالت أختها الناشطة في الإغاثة: “خجلنا من دموعنا. قالت لنا: يجب أن تكملوا ما بدأتم به، ليس من أجله بل من أجلكم”. وقالت ثالثة: “ابتسامة أم أيهم اليوم جعلتني أهزم إحباطي، وأحيت فيّ التفاؤل” ( ).
هنا يكمن سرّ الابتسامة الدائمة إذن، إنها ابتسامة موروثة من هذه المرأة التي تعرف أنها تهزّ العالم بيسارها، ليس بالعنف والدعوة إلى القتل والانتقام، بل بفيض الإنسانية وحكمة الألم. ألم الأمهات، كل الأمهات السوريات اللواتي يفقدن أولادهن في مقتلة يتناسل فيها العنف من العنف والجريمة من الجريمة.
تصدر كل يوم إحصاءات جديدة تتزايد فيها أرقام عدّاد الخسائر البشرية، إحصاءات عن عدد الشهداء: شهداء الثورة من جهة، وشهداء الجيش النظامي من جهة أخرى؛ عدد القتلى من النساء ومن الأطفال، عدد المفقودين، عدد المعتقلين، عدد الجرحى… وإذا جمعنا الأعداد في كل هذه الإحصاءات وصلنا إلى محصلة تشير إلى رقم واحد: عدد الأمّهات الكليمات. قد تنتهي الأزمة المسلّحة بانتصار أحد الأطراف المتحاربة، لكن الخاسر في جميع الأحوال هي الأمّ السورية، هي السيدة مريم.
المدن