انطباعات من القاهرة: هل المطلوب وضع وثائق لا معنى لها ولا وظيفة؟
ميشيل كيلو
حضرت للمرة الأولى في حياتي مؤتمرا جامعا للمعارضة السورية في الخارج، شجعني على حضوره أنه عقد في القاهرة، التي لا بد أن تعود إلى العرب ويعود هؤلاء إليها، وشجعني أن جميع أطياف المعارضة وافقت على انعقاده برعاية جامعة الدول العربية، وأنه سبق انعقاده قبول المجلس الوطني السوري أن يكون من المدعوين، كأي فصيل معارض آخر، بعد أن كان يشترط أن يكون الداعي، أو يؤكد أن قبول الدعوة إلى حضور لقاء يضمه، يعتبر نوعا من طلب انتساب إليه. قبل المجلس أن يكون مدعواً كغيره، بعد أزمات مر بها أدت إلى استقالة رئيسه الدكتور برهان غليون وخروج مئات المثقفين والمناضلين والناشطين منه، بعد أن قدموا إليه عرائض ستذكر في تاريخ النزاهة الوطنية والنضال السوري من أجل الحرية، وضد نظام السلطة الشمولي / الاستبدادي، وضد عمل المجلس، الذي تنفرد بتقرير أموره قبضة من المتشددين، يبدو أن عقلها السياسي لم يبلغ بعد درجة من الديموقراطية والقبول الفعلي بالآخر، تجعل التعايش معه ممكناً.
كان على لقاء القاهرة إقرار وثيقتين صاغتهما لجنة تحضيرية مشتركة ضمت مندوبين عن كل تنظيمات المعارضة باستثناء «هيئة التنسيق لقوى التغيير الديموقراطي»، التي لم تحضر لقاء اسطنبول، لكنها جاءت إلى اللقاء الحالي بعدد كبير من أعلى ممثليها. وقد تم إقرار الوثيقتين في نهاية اليوم الثاني، بعد يوم أول لم يبد خلاله الحاضرون أي اعتراض جدي عليهما، مع أنهم قدموا ملاحظات كثيرة جدا، لا لزوم لمعظمها، اتسمت بالتكرار وانصبت على نقطتين أو ثلاث أهمها «الجيش الحر». في مساء اليوم الاول، علم معظم الحاضرين باقتراح أن تكون هناك لجنة متابعة مشتركة من جميع التنظيمات والشخصيات المشاركة في اللقاء، قيل إن الجامعة العربية ستعتبرها قناة تتصل من خلالها مع الفصائل والمجلس، وبالتالي هيئة جديدة لعمل معارض موحد قدر الإمكان، وإن كان مستواها فضفاضاً وقليل الإلزام. عند هذه اللحظة بدأت آلة جهنمية تعمل، على خلفية عبر عنها صوت قال: نحن في المجلس قررنا فصل المستوى السياسي عن المستوى التنظيمي. هذا القول، الذي يخالف كل ما حدث في ثورات العالم، التي قامت كلها على التطابق بين المجالين السياسي والتنظيمي، كان معناه: إن أي تفاهم سياسي نصل إليه مع أطراف المعارضة يجب أن يعبر عنه تنظيميا من خلال المجلس، الذي لا يقبل الشراكة التنظيمية مع أي كان ولأي سبب كان، والحجة: المجلس هو الممثل الشرعي والوحيد للشعب، والإطار الوحيد المتاح أو المسموح به للمعارضة، وكل مس بطابعه هذه يعد مؤامرة على الشعب والثورة، فإذا أراد أحد ما التوصل إلى اتفاق سياسي، وجدنا على أتم الاستعداد لذلك. أما إذا أراد تخطي هذا إلى الإطار التنظيمي، فإنه سيكون في نظرنا متآمرا على المجلس والثورة التي يمثلها والشعب الذي اعتبره الجهة الوحيدة التي تعبر عنه. بعد قليل من هذا التصريح العجيب، أضاف عضو غير إسلامي في المجلس ان المؤامرة بدأت بمقالة في جريدة «السفير» كتبها ميشيل كيلو ونشرت يوم السبت الماضي (30/6)، طالبت باعتبار العلاقة بين المجلس وغيره انتقالية، وقالت إن عليه قبول الآخر وعلى هذا تجاوز أحكامه عنه. قال السيد غير الإسلامي في سياق حملته علي شخصيا وعلى المنبر الديموقراطي: هذه المؤامرة تعبر عن نفسها الآن باقتراح اللجنة، التي لن تمر إلا على جثثنا.
في اليوم التالي: عبر هذا الموقف عن نفسه من خلال التراجع عن القبول الضمني بوثيقتي اللجنة التحضيرية، وخاصة منهما وثيقة العهد الوطني، التي تذكّر الاخوان المسلمون فجأة انه لا لزوم لها، بما أن هناك وثيقة «العهدة الوطنية» التي كانوا قد أصدروها قبل قرابة شهرين/ بعد هذه المقدمة، انهال النقد على «العهد»، وخاصة منه جملة «الدين لله والوطن للجميع»، التي كان مندوبهم في اللجنة قد وافق عليها، ولم تكن موضوع نقاش خاص أو حملة منظمة ضدها في اليوم الأول. من الطرائف أن أحد المتحدثين قال في نقده: إن الدين للمجتمع، وحين سألته خارج القاعة: هل يعني هذا أنه ليس لله، غضب أشد الغضب وكاد يضربني.
أخذ الاعتراض ينصبّ الآن على الوثيقتين ضمن رسالة مبطنة تقول: رأس اللجنة مقابل إقرارهما. إن وافقتم على اللجنة رفضناهما وجعلنا عملها بلا موضوع. والحقيقة انه كان هناك في القاعة أغلبية عددية من غير المجلس، رغم أنه وقع حديث عن نجاحه في تسريب خمسين شخصا من غير المدعوين إليه قبل ليلة من انعقاده، دون أن تعلن عن ذلك، وسط أجواء المؤتمرات التي لا يعرف الناس فيها بعضهم بعضا، ولا يستطيعون التمييز بين المدعوين وغيرهم، ويحضرها عادة أشخاص من خارج السياق. بهذه الأغلبية العددية، كان من الصعب رفض اللجنة، فصار رفض الوثيقتين السبيل إلى منع تشكيلها.
طرح بعض أعضاء وأصدقاء المجلس خلال عشاء عمل تم في نهاية اليوم الاول على مجموعة من ممثليه الرسميين وقادته فكرة اللجنة، فكان رد أحدهم ما سبق قوله حول فصل المجالين السياسي والتنظيمي، وقبول التعامل السياسي لا التنظيمي مع الآخرين، ورد الممثل غير الإسلامي بخطبة غاضبة تعلن التصميم على إحباط المؤامرة وتستخف بالمنبر الديموقراطي السوري وبأعداد المنضوين فيه ـ يبدو أنه نسي في زحمة حماسته وانفعاله أنه ينتمي إلى حزب لا يتجاوز عدد أعضائه مئات قليلة من الأشخاص – ثم تحدث أحد دهاقنة الإسلاميين فأتحف الحاضرين بمحاضرة عن ضرورة الإعداد المنهجي لخطواتهم المهمة، وعن أهمية الحوار في إنضاجها، وقال إن الإعداد والحوار هما اللذان أفضيا إلى إنهاء خصومات تاريخية مزمنة كالعداء بين ألمانيا وفرنسا، وأردف ان إقامته الطويلة في أوروبا علمته هذا الدرس. بعد نهاية حديثه رد الأستاذ هيثم المالح عليه وقال له: لقد دعوتكم مذ خرجت من سوريا إلى الحوار، لكنكم رفضتموه دوما، فهل لك أن تحدد لنا مدة زمنية نتحاور خلالها، كي نصحح ما اقترفتموه من أخطاء ونتفاهم على لغة ومواقف مشتركة تجمع مختلف أطراف المعارضة؟ طبعا: بقي السؤال بلا جواب.
وسط هذا الاستعصاء، الذي «كربج» أجواء اللقاء تماما ودفع بكل شيء إلى المجهول، قفز بعض الإخوة الأكراد إلى ساحة الصراع، وطرحوا مطالب لم يسبق لهم أن قالوا بها، فغدا واضحا أن المؤتمر سيفشل، وأن المعارضة لن تقر الوثيقتين وستخرج من اللقاء أشد اختلافا وانقساما مما كانت قبله. لكنني كنت على ثقة من أنهما ستقران، إن تم إحباط مشروع اللجنة، وهو ما حدث بالفعل، في اللحظة الأخيرة، بعد منتصف ليل اليوم الثاني بقليل، عندما كانت أعصاب الجميع على وشك الاحتراق. أعلن عن قبول الوثيقة الأولى الخاصة بالمرحلة الانتقالية، ففرح الحاضرون ووقف أحد الشباب يردد الهتاف الذي يقول: «الشعب السوري واحد»، فخرج بعض الكرد غاضبين من القاعة، ووقع هرج ومرج شديدان، ونقلت التلفازات المشاهد التي رآها العالم، وتخللتها صرخات غاضبة وشتائم وركلات. عندما سألت عن السبب، قال لي شخص مقرب من الذين تسببوا بالإشكال: السبب داخلي، فالإخوة الكرد كإخوتهم العرب: ليسوا متفقين ولا يريدون أن يتفقوا، ويحاول كل واحد منهم تسجيل نقاط على حساب غيره، عبر مزايدات من طابع قومي.
واليوم، وقد صارت الوثائق وراءنا، وبعد أن وزع حزب الاخوان المسلمين تحفظات جديدة عليهما تختلف عن تلك التي قالها ممثلوه خلال اللقاء، يصير من الضروري الوقوف بكل جدية ومسؤولية أمام مسألتين مهمتين تتصل كلتاهما بوضع المعارضة السورية التقليدية، التي جاءت من الأحزاب.
1- الاتفاق مع الإخوة الكرد على طبيعة المرحلة المقبلة، هل هي ديموقراطية أم قومية. يخرج السوريون من عصر فشل قوميا لأنه لم يكن ديموقراطيا، بل ومعاديا للديموقراطية، إلى عصر ديموقراطي، بينما يريد الإخوة الكرد أن تعدهم الديموقراطية بتلبية مطالبهم القومية المشروعة، وإلا وقفوا جانبا في النضال ضد الاستبداد أو خفضوا دورهم فيه أو صعدوا مطالبهم منه، رغم ما يمكن أن يصيبه من ضعف سياسي في الحالات الثلاث.
2- دمقرطة تنظيمات المعارضة وعلاقاتها وعملها. ليس من المعقول أن يدّعي أشخاص لم يسمع باسمهم أحد طيلة قرابة ثلاثين عاما، ولم ينتخبهم أحد حتى في إطارهم الخاص، أنهم ينفردون بتمثيل الشعب السوري، وأن مجال المعارضة السياسي لا يجوز أن يتسع لغيرهم، وأن على من يريد العمل في الشأن العام أن يلتحق بهم، بشروطهم، التي لم يستشيروا أحدا بشأنها في حينه ولا يعرفها أحد الى اليوم، بسبب طبيعة القلة الإسلامية أو المتأسلمة التي تمسك بالمكتب التنفيذي وتاليا بقراره، الذي تتوهم أنه قرار الوطن، وتريد أن يوافقها الآخرون على أوهامها، وإلا تم تخوينهم على الطريقة اتبعها خلال خمسة عقود حزب البعث، ويبدو أنها معتمدة في تعامل هؤلاء مع الآخر والمختلف، بدلالة مئات الشواهد التي قدمها للرأي العام أشخاص كانوا داخل المجلس، أشهرهم هيثم المالح ووليد البني وكمال اللبواني.
لا بد اليوم من طريقة لتطبيق مضمون الوثيقتين، ومن إيجاد مستوى تنظيمي يضم المجلس وغيره من المعارضة، سيكون ديموقراطيا بقدر ما يتخطى المحاصصات والعقليات التآمرية. ولا بد من أن يغير المجلس عقليته، ويتخلى عن غروره وأوهامه، أو أن يجد لنا طريقة ما من الطرق العبقرية التي تشبه الطريقة غير المسبوقة في أي عمل ثوري، والقائمة على فصل السياسة عن التنظيم في ثورة حوّلها النظام إلى حرب حقيقية كاملة الأبعاد. هذه االطريقة، سأقبلها دون تردد وسأفوض المجلس بتمثيلي وبالتحدث باسمي في كل ما يتعلق بها وبالمسائل المتفرعة عنها.
هل يحدث هذا؟ إذا كان حدوثه مستبعدا وقعنا في ما كنا ننتقد الجامعة العربية والأمم المتحدة بسببه: وضع وثائق لا يعرف أحد آليات تطبيقها، وليس لها حامل سياسي قادر على تنفيذها، وبالتالي وضع وثائق لا معنى لها ولا وظيفة. هل هذا ما يريده المجلس؟ لا أحد غير المجلس يستطيع الرد على هذا السؤال. فهل سيرد؟ أتمنى من كل قلبي أن يرد.
كاتب سياسي ـ سوريا
السفير