انطباعات من دبي
ميشيل كيلو
لن أتحدث عن الأصدقاء الذين غمروني خلال لقاء جمعنا في دبي بمودة لن انساها ما حييت: من رجل الاعمال عبد القادر سنكري، إلى الدكتور مازن صواف، إلى الصديق القديم غسان عبود، إلى أسامة القاضي وغيرهم من رجال الأعمال والمهتمين بالشأن السوري. سأتحدث عن دبي، التي اعتقد أنها أتاحت لي فرصة إلقاء نظرة عليها أعمق من تلك التي ألقيتها قبل سبعة أعوام، عندما زرتها بدعوة من مؤسسة الخليج للدراسات والنشر عندما نظمت لقاء ضم نفراً كبيراً من مثقفي العالم العربي، تناقشوا في شؤون مختلفة تتصل بالإصلاح والثورة، قبل سنوات من زلازل تونس ومصر واليمن وسوريا.
في زياراتي المتعددة الى دبي، احتلت رأسي فكرة رئيسة حول جهد جبار يُبذل لبناء مجتمع ما بعد الحداثة على الرمل. في تلك الأثناء كنت أتحدث عن: مدن الرمل، بالتوازي ربما مع ما كان كتبه الصديق الراحل عبد الرحمن منيف في روايته العظيمة عن مدن الملح. كنت مؤمناً بأن هذا المجتمع لا أرجل له يقف عليها، وأنه سيكون معرضاً للتصدع متى هبت عليه عواصف العالم الحديث وصعوبات بنائه الذاتي، وكنت بكل صدق اخشى أن نرى مشاهد تذكر بمدن سوريا الميتة في محافظتي ادلب وحلب، والتي لم يبق من مجدها الغابر سوى بقايا تشي بما كان لها من تنظيم وعظمة. لذلك، حين هبت عاصفة الأزمة المالية على العالم الذي احتلت دبي مركزها المميز فيه، خفت عليها، وتوقعت أن أنتظر أنباء سيئة عنها في أي وقت. كنت أتساءل عن الآثار التي ستترتب على ذلك، ليس فقط بالنسبة إلى الخليج، وإنما أيضاً بالنسبة إلى المواطن العربي، الذي أعطت دبي نفسها الحق في أن تقوم بتجربة يتمنى أن يراها في كل مكان من وطنه، يريد لها النجاح كي لا تتصدع ثقته بقدرته هو أيضاً على تكرار تجربتها بنجاح في بلاده، انطلاقاً من اقتناعه بأن القوم نفسه الذي ينتسب هو نفسه إليه، وأن تجربتها تمّت بهذا المعنى باسمه لتثبت أن من كان أهلاً للحاق بالعالم هناك، سيستطيع فعل الشيء ذاته هنا ايضا.
لم يغب عن ذهني يومذاك أن غرس جذور التحديث من فوق قد يطلق تفاعلات يمكن ان تؤدي إلى تأسيس مجتمع يقف على ارض صخرية، يحل محل ما كنت أراه مجتمع رمل، اعتقدت أنه لن يكون إلا انتقاليا، لأن بناء الحداثة وطيد وظاهر إلى الدرجة التي تجعله لا يقبل التعايش مع غيرهن وأن قبل وضع مضامينه في إهابه الخارجي، الذي سيغدو ضيقا بصورة متزايدة عليه، بمرور الزمن وتقدم البناء. هل كان هذا هو قصد مَن خطّط وقاد التجربة؟
ليوم، لا شك عندي في ذلك، بعدما رأيت مدى التقدم الذي بني على الأساس التحديثي الأول، وكم تركض دبي نحو المستقبل، وتتجاوز بسرعة بعض أكثر بلدانه تقدما وتطورا، وكم تبني على أسس ريادية، وتعرف كيف تدير تنميتها وتقيم التكامل بين مشاريعها من موقع الريادة إياه الذي يجعلها تلحق في زمن قياسي ببلدان وصلت إلى ما هي عليه من تقدم وعمران خلال قرون. علما بأن بناءها متقن إلى الحد الذي سيجعله يدوم عقودا كثيرة، وربما قروناً. فأنت لا تعثر في أي مكان منها على حفرة في طريق، أو على ثغرة في رصيف، لا ترى مظاهر تهالك على مبانيها، ولن يكون بوسعك مهما حاولت ان ترى إشارة مرور معطلة، أو مرفقا لا يتوافق مع بيئته، ولا يبدو وكأنه جزءا من تكوينها الطبيعي. علما بأن ملايين الازهار المزروعة في كل مكان وعلى كل فسحة ورصيف ليست هنا كي تحجب عيبا أو تغطي على نقص، بل تكمن وظيفتها في إمتاع عينيك بالجمال على جانبيك، والذي يكمل الجمال الذي تراه وأنت تنظر إلى الافق أو إلى الأعلى، أو وأنت تجلس قرب المراسي التي ادخلت البحر إلى داخل المعمور، وجعلت منه مرآة تعكس اضواء المباني والأشجار التي حوله، بينما تغطي الخضرة كل شبر من المدينة العملاقة، الزاحفة على الصحراء، والتي تقضمها وتحولها إلى تلال وحدائق غناء تعيش فيها انواع من الطيور يصعب تخيلها فيها، كالحجل.
أتيت إلى دبي من فرنسا، فلم اشعر أنني غادرت الحاضر إلى الماضي، كما يحدث لي عندما ازور بلدانا عربية أخرى. كان أول إحساس راودني هو أنني بقيت في الحاضر، في حاضر يصارع المستقبل ولا يصارع كي لا يسقط في الماضي أو ينتزع نفسه قطعة قطعة منه ، فلا عجب أنني همست بصوت حزين: كانت سوريا جنة حولتها الأسدية إلى صحراء ثم مقبرة، وكانت دبي صحراء فحولها العقل المبدع وحب الوطن إلى مشروع جنة.
بالنسبة إلى سوري يستمر تدمير بلاده، تبعث دبي الأمل في نفسه بأن ما وقع فيها يمكن أن يقع عنده أيضا، وأن ما بنته العقول المنظمة والإرادة المصممة من فوق، تستطيع الأيدي المخلصة إشادته من تحت، خصوصاً إن توفرت له فوق، في الحكم والسلطة، عقول منظمة تحب شعبها ووطنها.
بعثت دبي الاعتزاز بها في نفسي كعربي، وبعثت الثقة لدي بأن من قام بثورة دامت عامين ونجحت في الصمود أمام آلة عنف لا ترحم، بلا أن تقلب شيئا فشيئا موازين القوى على الأرض لصالحها، لن يهدأ له بال بعد نيله الحرية إذا لم يرجع وطنه إلى ما كان عليه: جنة الله في الأرض، التي لن تكون غير جنة عمران وحرية.
المدن